لم يكن الأمر مفاجئا في الحقيقة. ولكنه كان مع ذلك صادماً نوعاً ما، وليس فقط لأن وجود الملكة إليزابيث الثانية كان ثابتا من ثوابت الحياة البريطانية على مدار السبعة عقود الماضية. وسط كل مظاهر الحزن والأسى العامة والخاصة التي تلت وفاتها الخميس الماضي، أصبح واضحا لملايين البريطانيين أن حكم إليزابيث الثانية يقدّم إجابة عن سؤال يزعج البلدان الأخرى من خارج بلدهم المنقسم والمضطرب اقتصاديا. ويثير قلق العديد من البلدان الأخرى، أيضا، بما في ذلك الولايات المتحدة. فنحن نعرف ما يقسّمنا. ولكن هل نعرف ما الذي يبقينا متحدين؟ 
الواقع أن أهم وأصعب تحدٍّ يواجه ابنها وولي عهدها، الملك الجديد تشارلز الثالث، حتى الآن هو ممارسة هذا التأثير الموحِّد. 
فالمؤسسة التي يقودها – الملكية الدستورية البريطانية – شيء من زمان آخر يحدث في القرن الحادي والعشرين, غير أنه تحت حكم إليزابيث الثانية، ازدهرت الكومنويلث. وداخلياً، اقتصرت الدعوات إلى إلغاء الملكية، وحتى بين الشباب، على أقلية هامشية أصغر بكثير من أولئك الذين ظلوا ينظرون إليها باعتبارها جزءا قيّما وأساسيا من هوية بريطانيا، وأن تكون بريطانياً. 
يعزى هذا جزئياً إلى طول عمر إليزابيث، ذلك أن قوس حياتها يمتد من الإمبراطورية، مروراً بفريقي «البيتلز» و«الرولينغ ستونز»، وصولاً إلى العقود الأخيرة التي أصبحت فيها بريطانيا أمّة أكثر انفتاحاً وحداثة وتعددية إثنية. 
وفوق هذا كله، كانت إليزابيث الثانية صلة وصل مع الحرب العالمية الثانية، حين خضعت لتدريب قصير عندما كانت أميرة مراهقة كسائقة وميكانيكية في «الخدمة الإقليمية المساعدة» التابعة للجيش. وظهرت على شرفة قصر باكينغهام ببذلتها العسكرية، بينما كان مئات الآلاف يحتفون بنهاية الحرب في أوروبا. وكانت حلقة وصل مع ما وصفه تشرشل على نحو شهير ب«ساعة» بريطانيا «الأروع». 
القوة الهادئة التي جلبها كل هذا إلى صوتها لم تكن أبدا أوضح مما كانت عليه خلال الجائحة. ففي خطاب متلفز وجّهته إلى الملايين من رعاياها الذي فرض عليهم لزوم بيوتهم أثناء الإغلاق، امتدحت فضائل التضحية بالذات والكرم و«الافتخار بهويتنا». وختمت خطابها بعبارة اقتبست بشكل مقصود من أشهر أغنية في بريطانيا خلال سنوات الحرب: «سنكون مع أصدقائنا من جديد. سنكون مع أُسرنا من جديد، سنلتقي من جديد». 
كانت تنظر إلى دورها باعتباره وقوفاً فوق الصراعات السياسية، دور يستوعب التغييرات الكبيرة بدلا من مقاومتها، ويسعى لتوحيد الناس. 
وعلى الرغم من أنها كانت تلتقي أسبوعيا – في محادثات جوهرية ولكن خاصة ومغلقة – مع 15 رئيس وزراء، إلا أنها لم تكن تجهر بآرائها السياسية أبدا. ولم يكن موقفها يستند كثيرا إلى ما كانت تفعله أو تقوله بقدر ما كان يستند إلى ما كانت تختار ألا تفعله أو تقوله. 
كان هذا مهما جدا بالنسبة لدورها كموحِّدة لرعاياها: وسمح ذلك للبريطانيين، شيبا وشبابا، وعلى اليمين أو على اليسار، بأن يشعروا بأنها تُشاركهم آراءهم وقيمهم وتطلعاتهم. 
ولا شك أن تشارلز سيستفيد خلال المستقبل القريب من العطف الذي يبديه آلاف الأشخاص عبر سائر أنحاء البلاد تجاه والدته، وقد أبدى أيضا مؤشرات على أنه تعلّم من النموذج الذي جسّدته خلال عقوده كولي للعهد. فقد أرسل رسالة واضحة من خلال خروجه إلى خارج القصر وتفاعله مع المعزين والمهنئين. وبالنظر إلى سجله السابق في الإدلاء بتصريحات وتعليقات صريحة حول عدد من القضايا السياسية والاجتماعية، أكد أنه يدرك أن تلك الأيام قد ولّت إلى غير رجعة إذ قال مؤخرا: «إنني لستُ غبيا... إنني أدركُ أن ممارسة مهام العاهل تمرينٌ مختلفٌ». 
ومن جانبهم، أكد سياسيو بريطانيا، عبر مختلف ألوان الطيف السياسي، أملهم في أن ينجح في دوره الجديد. وهذه ليس مسألة لطفٍ وودٍ من جانبهم فقط: ذلك أنهم يدركون مدى أهمية ذاك الدور، في عهد والدته، للحفاظ على البلاد موحَّدة.
إذ قلّما كانت هناك الكثير من القوى السياسية والاقتصادية التي تسحب في الاتجاه الآخر. ذلك أن الاقتصاد البريطاني يواجه حاليا تضخما من رقمين وانخفاضا في قيمة العملة نتيجة الجائحة والحرب في أوكرانيا. كما أن البلاد ما زالت منقسمة على نفسها بسبب «بريكست». 
وفضلا عن ذلك، يُظهر الزعماء السياسيون المحليون في الأجزاء غير الإنجليزية من المملكة المتحدة – اسكوتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية – نفورا متزايدا من لندن بخصوص سلسلة من المواضيع، وكذلك رغبة في قدر أكبر من الاستقلالية، وفي حالة اسكتلندا، في الاستقلال. 
الملك تشارلز الثالث لا يستطيع معالجة أي من هذه التحديات بشكل مباشر. وهو يعرف أنه سيكون من «الخطأ» إدعاء خلاف ذلك. 
مهمته ستكون مختلفة عن مهمة والدته، ولكن ليس أقل أهمية منها، ألا وهي: توفير فضاء للأشياء التي توحِّد البريطانيين في النهاية. 

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»