تؤدي العلوم الشرعية مهاماً واسعة الأهمية والإدراك للواقع البشري، وما يتلاقفه من تحديثات محفوفة بالتحديات، فتكون عماداً كفؤاً لتجاوز العقبات، والانتقال ببني البشر لطور حياتي أكثر سلاسة وتفوق.

وفي حين أن تعدد الأدوار الوظيفية للعلم الشرعي، يجعل منه مظلة واسعة يسعى لنهل منها كافة شرائح المجتمع، فإن هذا العلم بحد ذاته يتلاقى بخيوط متينة مع مختلف المجالات، فنجده محوراً بارزاً عند الحديث عن «التكامل المعرفي»، وبخاصة بين العلم الشرعي والإنساني، سيما أنه منضبط بمنهجية رصينة لا تنفك عن الديمومة في تحقيق مصلحة الإنسان، وتذليل الصعاب، وإعانته على أداء رسالته، مما يجعل تلك الديمومة مصاحبة لاستدامة أخرى في تغيير عدسة قراءة الخطاب الديني و«حسن استثمار» مكنوناته وتوظيفها القويم لخدمة الإنسانية.

قد يتوارد للأذهان في ذات السياق عن إمكانية تلاقي العلم الشرعي مع «نظارة» الفلسفة، أو الداعي لوجود ذلك بالأساس، وبادئ ذي بدء فلا بد من مطالعة دور العلم الشرعي مع استحضار المعنى الصريح للعمليات الفلسفية، سيما أن العلوم الشرعية تسعى دائماً للتقويم، وإحداث التغيير الإيجابي في شتى مناحي الحياة، مع المواكبة المستحدثة، كما تجمع كل ما انطرح من تصورات مغلوطة، مصححة للمفاهيم والأفكار الخاطئة، وبانية لقاعدة محكمة من العلم الشرعي الذي يسهل الوصول للتصور السليم للكون وقضايا الحياة، جاذبة أطراف البشرية نحو قمة جامعة على الحوار والتفاهم، وناشرةً في كل ما أوتيت لقوة الأخلاق، وتثبيت دعامات القيم، وتطوير أدوات الخطاب، في ظل صون للوحدة الفكرية الإسلامية، وتحقيق التوازن بين الموروث والمعطى الجديد.

ومن ذلك فإن فتح مصراعي الباب للدرس الفلسفي في العلوم الشرعية، بعيداً عن «البحوث الكلامية»، وما شذ من تصورات بعيدة عن قويم الدين، فإن ذلك دعا العديد من العلماء والفقهاء، الذين أحاطوا بضرورة الاشتغال بالدرس الفلسفي على طاولات الفقه، وتدارس القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومع ذلك لا بد من الإشارة لضرورة القيام بالعمل الفلسفي الشرعي من قبل أصحاب كفاءة وخبرة وإحاطة بالعلم الشرعي، لخطورة ما يترتب على انعدام الدقة من انحرافات بعيدة عن المآل.

وللناظر لعملية الفلسفة المدمجة مع السعي الشرعي في علوم الفقه ومجالاته، مساندات منطقية وعقلية تأصل للمفاهيم الدينية في سياق التدافع العالمي، وهذا لا يعني البتة الانسياق للمستجدات دونما وعي، سيما أن «لي عنق النص» وتطويعه من أكثر المبادئ البحثية رفضاً واعوجاجاً وانحرافاً، فتقديم قراءة استشرافية حديثة، لا يعني مخالفة النص ولا المزاودة عليه، فلكل ضوابط ومنهجية لا ترهق النص الشرعي، ولا تستغني عن درر المعارف المبنية على التفسير الدلالي والتشبث بقرائنه الثابتة.

فـ«أهلاً بالتعقل» و«لا مرحباً بالغرابة الشاذة». لا تتجاوز الفلسفة في النص الشرعي كونها أحد إثباتات الإنسان لعمق إيمانه الديني، وثقته بالنص الشرعي القادر بمعجزة إلهية على استيعاب مختلف التحولات، وإثبات الكفاءة دونما تعقيد أو اضطراب، وبخاصة أن حالة الخوف التي يعيشها الكثير من «ضعاف الكفاءة الفقهية» حالت دون تحقيق المقاصد الربانية التي تدفع بالأمة الإسلامية نحو التميز والتقدم والمواكبة السلسة.

ومن ذلك فإن إيلاء العناية الملائمة لـ«العمليات الفكرية والفلسفية» من خلال إشراكها في الاشتغال الفقهي، وتوظيفه في مدارسة قضايا الإنسان، والنظر في همومه، بات إحدى ضرورات العمل الفقهي لا ترفاً يمكن صفه على رف بالٍ، إذ يحمل معه مختلف الوسائل المساهمة في تحقيق المصالح الإنسانية، ودرء المفاسد، وصون الثوابت، وحسن التعامل مع الإرث النفيس، دون إفراط أو تفريط. تفضي إلماحات الدرس الفلسفي في العلوم الشرعية المعاصرة، لاعتبار الحاجة فيه، وبخاصة، تلك التي تدفع بتبيان أهداف الفقه، وتبرز مقاصده، وترسخ هويته، وتحلل مبادئه.

فالفلسفة الفقهية تجد انتعاشاً في «سهول الشريعة» من حيث الأحكام والقوانين الناظمة، وتفسير العلاقات الإنسانية، وتأثير العوامل الواقعية على الخطاب الفقهي الشرعي، وسبل إيصال مقاصد الشارع للمجتمعات، ومدى ترابطها ومختلف العلوم الدينية والانسانية، وتبيان لنصاعة الإسلام وسماحته بعيداً عن الدوغمائيات والصور المغلوطة، نحو فلسفة فقهية راشدة.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة