يجوز للعالم الغربي أن يهنّئ نفسه لأنه شكّل جبهةً موحدةً إزاء الحرب الروسية الأوكرانية. فعلى مدى سبعة أشهر من الحرب، كان هناك قدر كبير من التضامن والوحدة في الآراء والقرارات. غير أنه إزاء روسيا، كان هناك تباعد واضح بين المواقف الجيوسياسية لألمانيا وفرنسا وإيطاليا من جهة، وهولندا وبولندا من جهة أخرى. ولكن الرغبة في الحفاظ على تماسك وانسجام أوروبي كانت تطغى دائماً على هذه التصورات الموروثة من التاريخ الخاص بكل دولة.

حلف الناتو، الذي كان إيمانويل ماكرون قد وصفه بأنه في حالة موت دماغي في ديسمبر 2019، لم يسبق له أبداً أن بدا بمثل هذه الدرجة من القوة والتماسك والعافية، وذلك لدرجة أن بلدين محايدين تقليدياً، السويد وفنلندا، يريان أن الانضمام إليه بات أمراً لا بد منه، وبشكل مستعجل.

ومنذ نهاية الحرب الباردة، لم يسبق للبلدان الأوروبية أبداً أن طالبت بضرورة وجود عسكري أميركي قوي في القارة، في وقت يبدو فيه أن الولايات المتحدة هي البلد الوحيد القادر على مواجهة تهديدٍ روسي عسكري بات يُنظر إليه باعتباره معطى استراتيجياً بنيوياً.

فالخوف من الحرب يدفع الأوروبيين إلى طلب الحماية الأميركية، ويبدو أن الجميع نسي الآن إخفاق كابول وفقدان المصداقية الاستراتيجية الأميركية التي نتجت عنه. ولكن هذا التضامن القوي من قبل البلدان الغربية، سواء مع أوكرانيا أو داخل الأسرة الغربية، لا ينبغي أن يحجب عنا حقيقة أكثر إزعاجاً. فصحيح أن العالم الغربي موحد، وهذا أمر لا يمكن إنكاره، ولكنه أيضاً معزول نسبياً.

فقد اتفق الغربيون على سبع مجموعات من العقوبات ضد موسكو، غير أن أي بلد من خارج العالم الغربي (إذا استثنينا كوريا الجنوبية واليابان وأستراليا ونيوزيلندا، وهي بلدان آسيوية ولكنها «غربية» من الناحية الجيوستراتيجية) لم يتبنَّ أي واحدة منها.

وإذا كان العالم الثالث لم يعد موجوداً منذ وقت طويل، فإن بلدان «الجنوب العالمي» رفضت جميعها اتباع الغربيين في فرض العقوبات إزاء روسيا، سواء تعلق الأمر ببلدان نامية أو في طريق النمو، أو ببلدان أقل تقدماً. إنها مقولة «الغرب في مقابل بقية العالم»، تتحقق على ما يبدو.

ومن هذه الناحية، يمكن القول إن العقوبات الرامية إلى إضعاف روسيا غير كافية لحمل فلاديمير بوتين على تعديل سياسته. ولهذا، فإن الحديث عن حرب باردة جديدة ليس دقيقاً. ذلك أنه إبان الحرب الباردة، كان على البلدان التي كانت تشكّل «العالم الثالث» أن تختار التحالف مع موسكو أو مع واشنطن. أما بلدان «الجنوب العالمي»، فإنها باتت الآن ترغب في أن تكون لها علاقات مع الاثنين، كما أنها ترفض الاختيار بين بكين وواشنطن. وإذا طُلب منها القيام باختيار، فإنه من غير المؤكد أن تميل في معظمها نحو الغرب.

والأسباب متعددة. ومن ذلك أن بعض البلدان تربطها بموسكو علاقات تاريخية يعود تاريخها إلى الحرب الباردة وإنهاء الاستعمار. وعلى سبيل المثال، فإن أفريقيا الجنوبية لم تنسَ مساعدة موسكو لها أثناء الكفاح ضد نظام الفصل العنصري «الآبارتايد»، المدعوم من قبل الغربيين. كما أن هناك بلداناً أخرى تعتمد على روسيا في اقتناء معداتها العسكرية وأمن الأنظمة القائمة.

والهند، التي يمتلك جيشها أسلحة ومعدات عسكرية مستوردة في معظمها من موسكو، لا ترغب في المجازفة ورؤية خط إمدادها يُقطع. ومن جانبهما، ترتبط المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بموسكو من أجل تحديد حجم الإنتاج، وبالتالي أسعار المواد الأولية في مجال الطاقة.

ولكن السبب الأهم هو أن هذه البلدان باتت ترى إلى حد كبير أنها غير مضطرة لاتباع الغربيين بشكل أعمى وأنه ينبغي عليها أولاً وقبل كل شيء أن ترسم بنفسها سياستها الخاصة، بما يتماشى مع مصالحهما الخاصة ويخدمها. وتؤاخذ الغربيين على نوع من النفاق: مستعدون لاستقبال لاجئين أوكرانيين، ولكنهم يرفضون أولئك الذين يأتون من قارات أخرى، وحريصون على تطبيق القانون الدولي حينما تنتهكه روسيا بشكل مهين، ولكنهم في الماضي لم يترددوا في أخذ راحتهم إزاءه. وهي لا تعيب على البلدان الغربية قيمها، وإنما طريقتها في استغلال تلك القيم بشكل انتهازي حينما يتوافق ذلك مع مصلحتها وتستخدمها استخداماً يتغير بتغير الظروف.

وعليه، فإذا استمر الغربيون في تحديد الأجندة الدبلوماسية بينهم معتقدين أنهم يستطيعون فرضها من دون صعوبة على بقية العالم، فإنهم سيصابون بأوهام وخيبات أمل كبيرة. إذ لا بد من أن يدركوا أن الزمن الذي كانت فيه أممٌ أخرى تتبع الخط الغربي بانقياد لأنه لم تكن لديها إمكانيات أخرى قد ولّى. كما يجب على المجتمع الغربي أن يدرك أنه ليس المجتمعَ الدولي، ولكنه لا يمثّل سوى جزء منه وأنه ينبغي وضع الآراء والتيارات الأخرى في الحسبان من أجل التوصل إلى نتيجة.

*مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس