عندما تُوجت اليزابيث الثَّانيَّة ملكةً ورئيسةً أرضيَّةً للكنيسة الإنجليكانيَّة (1952)، لم تثر بوجهها قضية الولاية، مثلما لم تُثر بوجوه اللَّواتي مِن قبلها: ماري الأولى(1553)، واليزابيث الأولى (1558)، وآن(1702) وفكتوريا(1837). فالمسيحيَّة على اختلاف مذاهبها لم تتحدث عن ذلك، مثلما هو الحال في عالمنا الإسلاميّ.
أمَّا عن إليزابيث الثَّانيّة(1926-2022)، جمعت، هي والملكات اللواتي سبقناها، بين ولاية التَّاج والكنيسة معاً، وكذلك لم يُثر نقاشٌ في ذلك، فملك إنجلترا ومنذ (1534) يجمع بين الولايتين، وانتقل لقب «حامي الإيمان» إلى إليزابيث بعد اعتمار التَّاج وفوقه ينتصب الصَّليب، يوم أعلن الملك هنري الثَّامن الانفصال عن الكنيسة الكاثوليكيَّة، وأقرَّ له رجال الدِّين بتولي السُّلطة الدِّينيَّة، فأصدروا: «نعترف أنَّ جلالتكم هو الحامي الوحيد والمطلق والأوحد، والرَّئيس الأعلى للكنيسة، ورجال الإكليروس في إنجلترا، بقدر ما تسمح به شريعة المسيح»(لوكلير، تاريخ التَّسامح في عهد الإصلاح). يومذاك أعلن الملك رئيساً أرضياً أعلى لكنيسة بلاده، وحيث يمتد مُلكه، أما الرَّئيس السَّماوي، حسب تقاليد الكنيسة، السَّيد المسيح. منها تقرر إدخال الصَّليب في التَّاج والعلم، وما زال كذلك. أمَّا الإدارة والرَّئاسة الفعليَّة للكنيسة فلرئيس أساقفة كانتربري، فاتيكان الكنيسة الإنجليكانيَّة. 
يحتج الإسلاميون بالنِّظام البريطانيّ، على أنَّ الملكة رئيسةٌ للكنيسة، ويحتجون أيضاً بأحزاب أوروبيَّة، متخذة أسماء دينيَّة، مثل: «الحزب الدِّيمقراطيّ المسيحي» في أكثر مِن بلاد، ذات نظام غير ديني. غير أنَّ الملكَ رئيسٌ للكنيسة، والصَّليب في التَّاج والعلم، أو أسماء الأحزاب الدِّينيَّة، أنها مجرد رموزٍ كافة، فلا بريطانيا تحكم بالدِّين، ولا تلك الأحزاب تمارس تراثاً دينياً، فالكلّ عانى مِن سلطة الكنيسة في يوم ما، حتَّى بات الزَّمن ضدها، وحصل التّحول بأوروبا. 
حافظت إليزابيث على وحدة إنجلترا، وحمت بلادها مِن الانقلابات، في أصعب الظَّروف، فسار إلى توديعها الملكي والجمهوريّ، شيباً وشباناً، بباقة وردٍ أو شمعةٍ، يذكرها الأطفال، جيل بعد جيل، وتذكرها الطّيور المحمية بتاجها. تماسكت بعد أنّ عصفت ببلادها وأسرتها العواصف، وهي لا تزال ولية عهد، حيث الحرب الثَّانيَّة نازلةً بين الجنود، ثم معتمرة التَّاج وحاملة الصَّليب لسبعين عاماً، ومِن الحقّ المبين أن تسمَّى عاتكة لهم، ومعنى العاتكة: «المضمَّخة بالطِّيب، التي اصطبغ وجهها بالحمرة مِن أثره، الجميلة الكريمة»(قاموس المعاني). 
تركت إليزابيث الثَّانيَّة للعراقيين ذكرى يتداولونها، في أيام بؤسهم، وهي استقبالها للمك الجميل فيصل الثَّانيّ(قُتل: 1958)، نشطوا بتداول ذلك الشَّريط، حال إعلان رحيلها، الذي لا أظن احتفظت به بغداد الرَّسميَّة، يوم سادت فوضى الغضب والدَّمار، المبني على الهتاف والشّعار، فاختفى السُّراة في حلكة اللّيل البهيم، وللشاعر الجاهليّ صلاءة الأفوه الأوديّ: «لا يصلحُ القومَ فوضى لا سُراة لهم/ ولا سُراة إذا جهّالهم سادوا/ تهدى الأمور بأهل الرّأى ما صلحت/ فإنْ تولّت فبالأشرار تنقادُ»(ابن قتيبة، الشِّعر والشُّعراء). كم فقدنا مِن السُّراة، وكم أشرار قادونا، ورقصنا فرحاً جهلاً وندمنا ترحاً. لقد مشى الإنكليز زُرافات ووُحدانا، تأسياً لفقد ساريتهم، عاتكتهم. 

* كاتب عراقي