يروي أول رئيس لمصر ما بعد الملكية اللواء محمد نجيب في مذكراته المعنونة ب«كنتُ رئيساً لمصر»، أنه في أعقاب ثورة 1919 أصدر الجيش البريطاني في السودان أمراً بتسريح الكتيبة التي يخدم فيها ضابطاً، فكان أن تقدم بطلب لنقله إلى البوليس المصري. وبعد التخرج في مدرسة البوليس عَمل في أقسام الشرطة بالقاهرة لأربع عشرة شهراً فقط، فقد وقعت حادثة أقنعته بترك العمل في الشرطة والعودة إلى الجيش.
فبينما كان في قسم مصر القديمة، وإذ بولد يصرخ ويقول إنّ لصوصاً اعتدوا عليه وسرقوا طاقيته وبها ستة قروش، فما كان منه إلا أن فتح محضراً بتهمة السرقة بالإكراه، فصاح به المأمور، أو الضابط الأعلى رتبةً منه، مستنكراً تقييد قضية من نوع الجناية، مع كل ما سيعقب ذلك من ملاحقات وتحقيقات ونيابة ومحاكمة، وذلك من أجل ستة قروش، ثم مضى المأمور في طريقه.
واقتنع محمد نجيب بصواب كلام المأمور، فانتزع ورقة المحضر من دفتر الأحوال. وعندما علم المأمور بما حدث، استدعاه في الساعة الثالثة صباحاً وقال له إنّ تمزيق دفتر الأحوال جناية أشدّ من جناية السرقة بالإكراه، فدفتر الأحوال محرّر رسمي، وانتزاع ورقة منه يشكّل جريمة إتلاف محرّر رسمي. ويقول محمد نجيب معلقاً إنه أراد الخروج من حفرة فإذا به يحفر لنفسه حفرة أكبر منها، وكان ذلك الحادث سبب استقالته من الشرطة.
عاد الرجل إلى الجيش وأخذ يترقى في الرتب العسكرية حتى حمَل على كتفيه السيفين والنجمة وصار اللواء محمد نجيب، والذي قاد بعد ذلك مع بعض الضباط الثورة التي أطاحت بالنظام الملكي في مصر. ورغم أنّ ذاك كان سيقع في كل الأحوال، سواء بمشاركة اللواء محمد نجيب أو من دون مشاركته، بسبب تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية في مصر إلى درجة أنه لم يكن ثمة بدٌ من إنهاء تلك الأوضاع ولو بالقوة، فقد كان لوجود اللواء محمد نجيب على رأس ذلك التحول الكبير تأثيراً هائلاً على الأحداث فيما بعد. 
فلو لم يكن الرجل موجوداً، برتبته العسكرية الكبيرة، وصفاته الشخصية، وقيمه وأخلاقياته، لربما فشلت الثورة الذي كان الضباط الصغار يخططون لها، أو لم يقع أساساً، أو جرت الأحداث بعد وقوعه بطريقة أخرى، ولَكان مجرى التاريخ مختلفاً لا في مصر فحسب، وإنما في كافة الأقطار العربية، ولا سيما تلك التي كان لمصر الناصرية تأثير كبير عليها.
ستة قروش آنذاك دفعت ضابط البوليس محمد نجيب إلى ترك الشرطة والعودة إلى صفوف الجيش، ولولاها لربما بقي الرجل في سلك الشرطة إلى آخر حياته الوظيفية، ولربما ما وقعت الثورة، أو وقعت بطريقة أخرى، أو سار بعد ذلك في مسار مختلف عن المسار الذي سلكه فعلاً، وهو المسار الذي استمر حتى بعد رحيل كافة الذين خطّوه ومشوا فيه.
عجيبٌ هذا التاريخ، مواقف بسيطة جداً، مِن مثل كتابة محضر لأجل سرقة ستة قروش، من الممكن أن تقلبه رأساً على عقب، وتغيّر حياة الملايين من الناس، وأجيال من البشر. 

* كاتب إماراتي