في الولايات المتحدة كان الرؤساء يتغيّرون، إلا أن المصالح كانت دائمة وثابتة. وكانت مؤسسات الدولة التي تسهر على ثباتها تعرف كيف تنتقل بهذه الثوابت من رئيس «جمهوري» إلى رئيس «ديمقراطي» أو بالعكس. ولكن الأمر تغيّر الآن. فالثوابت الأميركية أصبحت متحركة (بل ومتغيّرة حكماً) مع حركة التبدّل بين الحزبين اللذين يتواليان على البيت الأبيض. وعلى سبيل المثال، كان الرئيس السابق دونالد ترامب (الجمهوري)، ضد المعاهدة الدولية (التي أُقرّت في باريس) حول موضوع البيئة والاحتباس الحراري. وترجم معارضته لها بالترخيص من جديد لعمل مناجم الفحم الحجري في الولايات المتحدة. ولكن ما أن وصل الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض، حتى عاد إلى المعاهدة من جديد ملتزماً بكل بنودها. وكانت خطوته الأولى إلغاء رخصة عمل مناجم الفحم.

وكان الرئيس ترامب يريد الانسحاب من حلف شمال الأطلسي. وقد أبلغ رؤساء دول الحلف بذلك رسمياً، غير أن الحلف استعاد عصره الذهبي الآن مع الرئيس بايدن. ويشهد على ذلك الدور الذي تلعبه دول الحلف الآن في أوكرانيا، ثم إن الغزل تحت الطاولة وفوقها بين الرئيسين الأميركي ترامب والروسي بوتين، تحوّل الآن إلى عداء حاد ومكشوف بين الرئيسين بايدن وبوتين. حتى أن أوكرانيا التي كادت تتحوّل إلى مسرح للقاء الودّ بين الرئيسين السابقين - الأميركي والروسي-، تحوّلت إلى ساحة صراع بين الرئيسين الحاليين بما يهدّد الأمن العالمي.
وللشرق الأوسط نصيب من ذلك. فالرئيس ترامب كان منفتحاً على دول المنطقة العربية التي انغلق عليها الرئيس بايدن منذ الأيام الأولى لدخوله البيت الأبيض. 
ليست الولايات المتحدة مجرد زائد واحد إلى عدد دول العالم، فهي تطرح نفسها بما لديها من إمكانات وبما لها من مصالح ونفوذ، لاعباً ثابتاً على مسرح السياسة العالمية. إلا أن هذا اللاعب لم يعد ثابتاً حتى في العلاقات مع دول الجوار في أميركا الجنوبية أو مع دول القارة الأفريقية. وبصرف النظر عن الخطأ والصواب -وهذا ليس من اهتمامنا الآن- فان القضية المهمة تتمحور حول مبدأ التغيير المرتبط بشخص الرئيس على حساب مبدأ الثوابت المرتبط بالمؤسسات.
لقد سبق لصحيفة «نيويورك تايمز» أن نشرت مقالة لوزير الخارجية الأميركية الأسبق هنري كيسنجر (2-4-2012) قال فيها:
«على مدى نصف قرن كان يقود السياسة الأميركية في الشرق الأوسط العامل الأمني. منع قيام أي دولة من الهيمنة على المنطقة، تأمين حرية تدفق مصادر الطاقة الضرورية للاقتصاد العالمي، ومحاولة لعب دور وسيط للسلام بين إسرائيل وجيرانها بما في ذلك تحقيق تسوية مع الفلسطينيين العرب».
ولكن الرئيسين ترامب وبايدن يتعاملان مع هذه الثوابت بأشكال وبصيغ وبمقاربات مختلفة إلى حدّ التباين والتناقض. وانعكس ذلك في تغيير القيادات البشرية في «المؤسسات المتعثرة» في الدولة الأميركية، والتي تشكل في هويتها غير المحددة الجسر الثابت بين الرؤساء المتغيّرين.
تتغيّر السياسات مع تغيّر الرؤساء، وهذا يعني أنه لم تعد هناك ثوابت في العلاقات.. وبالتالي لم يعد هناك اطمئنان لطبيعة استمرار هذه العلاقات وتوجهاتها.
لا ينحصر الأمر على دولنا في الشرق الأوسط فقط، ولكنه يشمل العلاقات الأميركية مع دول العالم، الحلفاء منهم كاليابان وكوريا الجنوبية، وغير الحلفاء كالصين وكوريا الشمالية. ولعل أخطر ما في ذلك هو أن يكون الضغط بالتهديد أشد فعالية وأعمق أثراً من الضغط بالصداقة.
*كاتب لبناني