خصصت صحيفة لموند الفرنسية ملفا مهماً لنزعة «التعددية الكونية» pluversalism، التي هي اتجاه فكري وسياسي صاعد في الأدبيات اللاتينية الأميركية، يهدف إلى إعادة تصور الحداثة خارج المركزية الأوروبية. تعود أصول هذه المقولة إلى الفيلسوف التجريبي الأميركي المعروف وليم جيمس في نص نشر عام 1909 بعنوان «الكون التعددي».

وقد تحدث فيه من منظور ابستمولوجي عن استحالة الوصول إلى الحقيقة الكلية المطلقة، باعتبار أن بعض المعطيات في الواقع تظل عصية عن الضبط والإحاطة مهما كان هاجس الحقيقة والموضوعية قائما. إلا أن هذا المفهوم تطور في منحى مغاير في الأدبيات الفلسفية والسياسية اللاتينية الأميركية، بما تزامن مع الذكرى الخمسمائة لاكتشاف أميركا (1992)، فظهر تيار واسع ينتقد بشدة سيطرة التصورات المرجعية الأوروبية على الثقافات والمجتمعات الأخرى، ويدعو إلى نمط من التعددية المعرفية والقيمية للتفاهم والتعايش البشري داخل عالم متنوع حضاريا ومعياريا.

ينطلق هذا التيار من الاتجاه النقدي للكولونيالية (الاستعمار) الذي برز بقوة في الفلسفة الهندية الراهنة، ويتغذى من المقاربة التفكيكية للحداثة التقنية المعولمة في رؤيتها الاستغلالية العدمية للطبيعة والإنسان، كما يتجلى لدى عدد مهم من المفكرين الغربيين من ذوي الخلفيات الايكولوجية الطبيعية.

من أبرز ممثلي تيار «التعددية الكونية» الفيلسوف المكسيكي «انريك دوسل» وعالم الانتربولوجيا الكولومبي «إرتيرو إسكوبار» والناقد اللغوي الأرجنتيني «والتير مينغولو». لقد بلور دوسل نموذج «التعددية الكونية» في كتابه «1492: إقصاء الآخر»، مركزاً على نقد السردية الفلسفية للحداثة الأوروبية كما تتجلى في فلسفة هيغل الذي قدم صياغة تأليفية شمولية للفكر الإنساني تلغي الثقافات والمجتمعات غير الأوروبية وتحرمها من عالم المعنى والحقيقة.

وهكذا يرى دوسل أن مفهوم التعددية الكونية يحيل إلى مسار التثاقف الفلسفي المفضي إلى تداخل واغتناء الفضاءات النظرية المختلفة في ما بينها، بما يقتضي الاعتراف بحقوق متساوية بين كافة المجموعات الفلسفية والتقاليد المعرفية في ولوج المعنى وفي الصياغة البرهانية.

أما إسكوبار فقد عالج المفهوم نفسه في كتابه «الإحساس والتفكير مع الأرض» من منظور سياسي عملي، معتبرا أن التعددية الكونية هي الشرط الضروري للخروج من مأزق العولمة التقنية الغربية القائمة على الفصل بين الطبيعة والثقافة وبين الإنساني وغير الإنساني. ومن ثم فإن المجموعات الأصلية والمجتمعات التقليدية قادرة على الإسهام من خلال مخزونها التراثي المحلي في بناء حضارة إنسانية بديلة. ذلك هو الموقف نفسه الذي يدافع عنه مينغولو من خلال مفهومه «التفكير الحدي» border thinking، الذي يسعى إلى إعادة تعريف مفاهيم المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان خارج حقلها المرجعي الأوربي الأصلي.

يتعين التنبيه هنا إلى أن نزعة «التعددية الكونية» ليست مجرد تيار نظري، بل إنها أصبحت مؤثرة في المجال السياسي والأيديولوجي، ومن أبرز مظاهر هذا التأثير صعود الحركات الاحتجاجية المتمردة في بلدان عديدة من أميركا اللاتينية معتمدة مقولات «الحداثة المهجنة» و«ديمقراطية الطاعة» و«الحقوق الطبيعية»، كما هو شأن الحركة «الزاباتية» في المكسيك و«التحالف الشعبي الثوري» في البيرو.

ولا بد من التوضيح هنا أن هذه النزعة أصبحت شديدة الحضور والتأثير في أوساط الأقليات الملونة في الولايات المتحدة وفي الجامعات الأميركية لدى النخب الأكاديمية الأفريقية والآسيوية، كما لها صدى واسع في أوساط اليسار الأوروبي. لقد اشتهرت هذه النزعة في الآونة الأخيرة بمقولة اليقظة wokism، صدى لمطالبة الزعيم الحقوقي الأسود مارتن لوثر كينغ باليقظة الدائمة إزاء أشكال العنصرية الملتبسة والتمييز الخفي.

وقد تعززت كثيرا في سياق حركة «حياة الأسود لها أهمية»Black Lives Matter التي عرفتها أميركا عام 2013 احتجاجا على القمع البوليسي للمواطنين السود، وبلغت ذروتها عام 2020 كردة فعل صاخبة ضد موت الشاب الأسود «جورج فلويد» على يد شرطي أمريكي في مدينة مينيابوليس.

بيد أن حركة اليقظة تحولت في الحقل الأكاديمي إلى منهج تفكيكي نقدي للسردية الفكرية والتاريخية الأوروبية، في إطار التوجه إلى نزع الطابع الغربي عن الخطاب المعرفي للعلوم الإنسانية إظهاراً لمخلفات التمييز والإقصاء التي تختفي وراء مقولات ومفاهيم تبدو موضوعية ومحايدة. في فرنسا، أثار قرار تعيين المؤرخ ذي الأصول السنغالية «باب ندياي» وزيرا للتربية في الحكومة الأخيرة موجة عارمة من الاعتراض في صفوف اليمين باعتباره رمزا معروفا لتيار اليقظة والتعددية الكونية. ولا شك أن هذا التيار لم يقل كلمته الأخيرة في السياق الأيديولوجي والفكري الغربي.

* أكاديمي موريتاني.