في النصف الثاني من القرن المنصرم، أتُفق دولياً على دور وسائل الإعلام، من صحافة ورقية، وإذاعات مسموعة، وصولاً إلى التلفزة العالمية، وكيف أنها قادرة على أن تصنع صيفا أو شتاء، وبمعنى أخر أن تكون ناراً أو نوراً، في طريق ملايين الشعوب حول الكرة الأرضية، وهو الأمر الذي أثبتته بالفعل عقود الحرب الباردة، وما فعله الإعلام الغربي الموجه للكتلة الشرقية فيها. هل تغير الحال اليوم عن الأمس؟
مؤكد أن تراجعاً ما قد لحق بدور وسائل الإعلام التقليدية، والتي حلت محلها وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة، من فيسبوك وأنستغرام وتويتر وبقية تلك الطائفة المحدثة، والتي باتت وعن حق تساهم مساهمة كبيرة جدا في صناعة الرأي العام، وتوجيه الأمم والشعوب كيفما شاءت ومتى أرادات.
غير أنها وكما كل اختراع حديث، تبدو ذات وجهين، واحد إيجابي، والآخر سلبي، الأمر الذي يجعل الحيرة تلف مشهد تلك الوسائط، ويدعو للانقسام من حول ما إذا كانت تساهم في تحقيق مسارات الأخوة الإنسانية، أم أنها تفرق الجموع في أزمنة المحن المتباينة التي تضرب وجه الأرض في حاضرات أيامنا.
الأسبوع الماضي كانت العاصمة الكورية الجنوبية سيول، تشهد مؤتمرا للمنظمة الكاثوليكية العالمية للاتصالات، سيغنيس، وقد طرح هذا الموضوع الشائك كملف رئيس في النقاشات التي دارت بين الحضور، عن دور تلك الوسائط وما إذا كانت تدعم تواصل البشر، أم تخلق عوالم من الوحدة؟
حكما كانت تجربة عامين من جائحة كورونا مهمة للغاية في الوقوف على ناصية دور تلك الوسائط، لا سيما وأنها قدمت بديلا جيدا بدرجة أو بأخرى على صعيد تصريف الأمور ولو بشكل مؤقت إلى أن غربت شمسها عن بني البشر.
لكن على جانب آخر، فإنها بقدر ما وصلت بين البشر، بقدر ما خلقت نوعا من التمترس وراء جدران الأنا، وبات التعامل الإلكتروني وكأنه بديل عن فرحة وجود الآخر في حياتنا، والتلاحم الإنساني الخلاق الذي عرفته البشرية منذ اليوم الأول.
أمر آخر أفرزته الأزمة، وهو إمكانية استغلال تلك المساحة الواسعة الشاسعة من عالم الاتصالات، في الترويج للأخبار المزيفة، وليس الحقيقية، بهدف تحقيق منافع شخصية قصيرة النظر، الأمر الذي يؤدي في المحصلة النهائية إلى تراجع القيم الأخلاقية والمعايير الأدبية في عالم الاتصالات.
في مداخلته أمام المؤتمر، تحدث باولو روفيني، عميد الدائرة الفاتيكانية للاتصالات عن حالة التناقض التي تلم بالبشرية من جراء التقدم التكنولوجي الذي يجعلنا نعيش في تناقض، حيث نحن في اتصال قوي، لكننا وحيدون أيضا، وكل منا هو منغلق على ذاته، وهذه هي المشكلة، فحين لا يكون هناك تواصل بل مجرد اتصال، وحين لا يعود هناك الواقع بل بديل عنه، فعلينا أن نتساءل، وأن نفحص ضمائرنا بشكل شخصي وجماعي، وأن نجيب على بعض التساؤلات بفكر منفتح.
في رسالته لمناسبة اليوم العالمي ال 53 للاتصالات الاجتماعية عام 2019، قال البابا فرنسيس إن تدفق جميع الأحكام المسبقة العرقية والجنسية والدينية وغيرها عبر شبكات التواصل الاجتماعي أمر له تبعاته السلبية، الأمر الذي يحول البشر من أخوة إلى أعداء متصارعين.
ما هي خلاص مؤتمر سيغنيس الأخير؟
الطريقة الوحيدة للرد على التكنولوجيا المعاصرة، وفي القلب منها وسائط التواصل الاجتماعي، هو ألا نعتبرها صنما نعبده، ولا شيطانا نخشى الاقتراب منه، بل التعامل المسؤول بضمير صالح وعقل واعٍ منفتح. الأخوة الإنسانية هي القضية وهي الحل.
* كاتب مصري