يشكل العقل «الدرة الثمينة»، والعلامة الفارقة بين الإنسان وغيره من سائر المخلوقات، وإلماح تفضيل وتكريم رباني، سيما أنه محرك التغذية الرئيسي الضليع بتحريك الطاقات البشرية وتوجيهها في الاتجاه السليم.
ومن خصوصيات العقل البشري عامةً، والعربي خاصةً «لتناوله في سياقنا» أنه يُملي على صاحبه ضرورة احترام كرامته، فلا يُعامل معاملة «الجهاز الهضمي» الذي تملؤه بما اشتهيت، بل هو يحتاج لإمعان ومُدارسة تسبق قبوله الموقف أو الفكرة المرشحة له، وهذا بالضبط ما حصل مع العقل العربي في مقابل الحداثة، وبخاصة أنه وضع بين خيارين يحمل كل منهما تداعيات فارقة، فهل يكون الانغماس بالحداثة «تقليداً أعمى» وتناولاً تقليدياً «أعمى المنهجية»؟ أم هو تأسيس واضح لمرحلية جديدة وحاجة فعلية للمجتمع العربي؟ 

لقد أثر في التأسيس للحداثة في الفكر العربي اشتباك وجودي مع التراكمات الموروثة «التراث» من جهة، وضبابية في طبيعة العلاقة مع الآخر، وصعوبة في تحديد التموقع الحقيقي في قلب الانسجام والتناغم المستدام في هذا العالم، وبخاصة في خضم التردد بين انطلاق العلاقة من أرض التفاعل مع الآخر، أو نمطية الانفعال وعدم التقبل.

وبين «الأنا والآخر» تعددت وجوه الحداثة، واختلفت إرهاصات التأسيس لها، سيما أن التخلي عن السلطة الدينية في الحداثة الغربية، لا يقبل أبداً في «نسخته» العربية، بل يتصل معه ومع موروثه بشكل كبير، حتى إن الحضارة العربية تعتبر في جلها «حضارة نص» وأصالة ماضي يقوم عليه الحاضر، وكما يقول الجابري: «سؤال الحداثة سؤال متعدد الأبعاد، سؤال موجه إلى التراث بجميع مجالاته وسؤال موجه للحداثة بكل معطياتها وطموحها»، مما يعني ضرورة تحديث «أدوات» ووسائل التعامل مع التراث لا التخلي عنه، ومن هنا كان التأسيس للحداثة في الفكر العربي متصلاً وثيقاً مع الدين، لا يعلن حالة من القطيعة والترفع كما هو في النموذج الغربي. 

وأما عن علاقة الإنسان العربي مع الآخر، فقد آسى في طريقه لبناء مدخل للحداثة من ازدواجية المفاهيم المنظمة لعلاقته مع الآخر، ولم يحظ بالقدر الكافي من الوضوح في ذلك، سيما أن طابع «العداوة» والغرابة أُقحم من خلال فهومات متعرجة تعدت ألفاظها، وفي الوقت ذاته شد لها العقل البشري المفطور على التطور والنهوض مع معطيات زخمة من التطور التكنولوجي والتقني والعلمي، ومن هنا بات ذلك الاتجاه الحداثي معوزاً لإيضاحات متصلة بالدين والفكر والثقافة والهوية. 
ومن ذلك نخلص لأن تأسيس الحداثة في الفكر العربي، قام ولا يزال على التأني وبث دوافع النقد البناء العقلاني، وتجديد القراءة وإعادتها بتحرير التراث من جمود التأويل، والعناية بالمسكوت عنه، وتحرير التراث من التقييد والاستغلال الأيديولوجي. كما يتكئ على قراءة «الإنسان» بتأنٍ ووعي بالآخر، ومنهجية قائمة على شعار مفاده الاتزان والموضوعية «لا تعر أحداً عقلك»، وصولاً لحداثة ناضجة الأسس، خالية من شوائب الحمولات القديمة، أو زوائد الاستنساخ التجاربي للمجتمعات الأخرى.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة