كغيره من الأسواق، ومن حين لآخر، يتعرض سوق العمل في دول العالم المختلفة لمؤثرات اقتصادية عديدة تدفعه للتكيف السريع معها.

ولكن استدامة حدوث مثل هذه المؤثرات جعلت أسواق العمل أمام اتجاهات جديدة لا ينفع معها مجرد المواكبة أو التكيف الآني، بل تولدت تغيرات جذرية وعميقة في طبيعة عمل هذه الأسواق، وفيما تعرضه من وظائف وما تطلبه من مهارات عمالية.وبالتأمل في الاتجاهات الحديثة التي تشهدها أسواق العمل، فيلاحظ أن لها أربعة مولدات رئيسية تتحكم في شكلها ومدى تأثيرها على قوى العرض والطلب داخل هذه الأسواق.

وأول تلك المولدات هو التغير التكنولوجي والتحول في هياكل الإنتاج بالأنشطة الاقتصادية، والثاني هو التغيرات العاصفة في البيئة والمناخ العالمي والسالبة التأثير في النمو الاقتصادي، والثالث هو شيوع العولمة الاستهلاكية، أما الرابع فهو واقع العلاقات الاقتصادية الدولية، تجارة واستثماراً. وثمة علاقة قوية وواضحة بين التغيرات التكنولوجية وبين الوظائف المعروضة في أسواق العمل الدولية.

فمع التحول نحو رقمنة الأنشطة الاقتصادية، ومع الاعتماد المتزايد على الأتمتة الكاملة لخطوط الإنتاج الصناعي والزراعي والخدمي، لم يعد هناك مكان ذو بال للمهارات العضلية في سوق العمل، وأصبحت الحاجة ماسة للمهارات الذهنية شديدة التخصص. وبالمثل، فإن حلول القضايا البيئية على رأس أولويات الخطط والبرامج الاقتصادية قد خلق نوعيات متخصصة من المهارات التي يتيحها سوق العمل حالياً أو يحتاجها مستقبلاً. ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك ما تشهده أسواق العمل من تنامي الطلب على العمالة عالية المهارات التقنية في أنشطة قطاع الطاقة النظيفة أو قطاع التدوير.

وإذا كان من الصحيح أن أسواق العمل قد استجابت لمؤثرات العولمة منذ بدايات ظهورها في أواخر القرن العشرين، فإنه من الصحيح كذلك أن عولمة القرن الحادي والعشرين ليست مجرد امتداد لسابقتها خاصة في التأثير على سوق العمل، إذ أصبحت هذه العولمة شديدة التأثير في أنظمة التعليم والتدريب الوطنية الخالقة للمهارات، وصارت العولمة هي الحاكم الأول لشكل المهارات العمالية المطلوبة، نتيجة لتأثيرها البالغ في اتجاهات الاستهلاك العالمي، ومن قبله الإنتاج والتشغيل والتوظيف، ومن ثم الطلب على العمل، ولاسيما في أسواق العمل بالدول الآخذة في النمو. ومن دون أدنى شك، فإن اتجاهات التجارة الدولية ونوعية الاستثمارات الأجنبية المتدفقة حول العالم ما انفكت تؤثر في أسواق العمل وفي آليات عملها.

فالمهارات العمالية المطلوبة لأنشطة التصدير والاستيراد عالي المكون التكنولوجي، ونوعيات العمالة التي تلبي تطلعات الشركات دولية النشاط في القطاعات الرقمية، تحوز حالياً على قاعدة عريضة من الطلب في أسواق العمل الدولية. ومن الطبيعي، في ظل هذه الاتجاهات شديدة التأثير على أسواق العمل، أن يكون واجب الوقت هو تطوير نظم التعليم والتدريب الوطنية، لخلق عمالة وطنية قادرة على مواكبة الاحتياجات المهارية الحديثة، والتي بدونها لن تتمكن من الولوج في أسواق العمل في المستقبل القريب.

*مركز تريندز للبحوث والاستشارات