واجه الإنسان العديد من تجاربه القائمة على نضاله الخارجي محاولاً تجاوز التحديات القسرية، ومنازعاً بنيانه الداخلي للوصول لفهم عميق متصالح من كافة جوانبه. لقد شكلت الحداثة إحدى أبرز العوامل الدافعة بإعادة صياغة المفاهيم المترابطة مع الذات والتي تدور حول تفسيرها، سيما أن المجال الفكري جابه العديد من عواصف التغيير الساعية لتوجيه طاقاته نحو التصورات الجديدة، والالتفاف حول المادية والعقلانية، متعمدة بقدر ما استطاعت هجر «أداة كيها» التي مثلتها الإيمانيات، والمنطلقات الدينية.

جل ما استولى على اهتمام العقل البشري في حقبة «صناعة الحداثة»، هو الوصول لأنموذج بشري أقرب للكفاءة في تعاطيه والمأمول ضمن هيكلة الحداثة الكبرى «على مستوى عالمي»، إذ بات إثراء العقل بالفهومات والفلسفات والثقافات التي تمكنه من أداء وظائفه، صهر طاقاته ضمن «محرك» بشري واسع، أحد أهم وأولى الضروريات، وبخاصة مع الانعطاف الحاد في مؤشرات الحياة نحو مظاهر التمدن، وملامح التحضر، والتصفيق للأساليب القائمة على التجربة، بعيداً عن كل ما يخالف منهجها. وبالفعل فإن ذلك شكل دافعاً قوياً وناجحاً في تغير المجتمعات نحو الأفضل، وتبديل معطيات ومبادئ كانت بمثابة السياج الحديدية المقيدة لعنانهم. 
وفي الوقت ذاته تجاوز الجهد المقدم ذلك، ودخل في حيز «برمجة بشرية»، من خلال رؤى حداثية حازمة، فظهرت العديد من المقاربات والمحددات والشروط للشخصية الحداثية اللازمة، من خلال قوالب فلسفية. وإذا تجاوزنا النظر في تداعيات ذلك على مساحة الإبداع والابتكار الإنساني، فإننا لا نستطيع تجاهل المنطقة الرمادية التي تقع بين النظري وضعف الآليات الحقيقية، مما وضع الإنسان على صفيح «النموذجية الجديدة» دون خارطة طريق واضحة المعالم. 
ولأن العثور على المشكلة يشكل نصف الحل، فإن الاعتراف باستحالة التعميم المطلق في المنهجية يعد منطقاً سليماً أولاً، ثم إشارةً وتصويباً نحو اعتبار الأسس المنهجية الجامعة، والفاعلة، التي لا تتلاقى وتجميد الإنسان في قوقعة متفردة عصية على التطوير، وفي ذات الوقت تزوده بلذة الحياة، تلك اللذة السهلة الممتنعة، والتي وصفها عالم الاجتماع الفرنسي جيل ليبوفيتسكي، حين وصف مجتمع الحداثة بأنه يتميز بالحركة والتدفق والمرونة والاستهلاك بلا حدود «الاستهلاك لأجل المتعة»، إضافةً، لوجود العديد من الملامح الدالة على وسع الهوة فيما بينه وبين المبادئ العظيمة التي هيكلت الحداثة بالأساس، أكثر من أي وقت مضى. ففي حين أن «الفرد الفائق الحداثة يجري توجيهه نحو اللذة الدنيوية والمتعة، إلا أنه أيضاً يمتلئ بنوع من الخوف والقلق الذي يتأتى من العيش في عالم ينزلق بعيداً عن التقاليد ويواجه مستقبلاً غامضاً». 

وفي احترام الفروقات التي تندرج تحت مشروع السعي لإنتاج نموذج إنسان الحداثة، من خلال مقاربة رؤيوية عالمية جامعة، فلا بد من الإشارة لدور المشتركات في تقريب المسافات، واستحالة بتر «الخصوصيات»، والتي تعتبر سيفاً ذو حدين، فبالرغم من أن الحداثة الغربية متصلة اتصالاً وثيقاً مع الإقلاع عن الإغراق في الدين، وإسباغه على ملامح الحياة كافة، إلا أنها لم تتوقف عن المتابعات المرتبطة بالتصور الديني، ومنها جاءت نظريات نشأة الأرض، ونشأة الخلق، وغيرها من الولادات لـ«أجنة فكرية» خداج، كتلك التي خلصت للإلحاد، أو اللاأدرية.
ومن ذلك نخلص لما جاء مع التصورات الحداثية من إخفاقات في التوجه المتعصب إما لأقصى الإيمانيات مع تعطيل وظيفة العقل، أو لتغليب المادية ورفض الدين، رغم أن الأخير لا يتنافى وجوهر الحداثة وما بعدها، ولا يتعارض وتيارات التطور والنهوض به، سيما أنه يؤسس لذلك ويدعو للنظر في المشترك.
ومن ذلك فإن الوصول الناجح لمقاربة رؤيوية عالمية لإنسان الحداثة، تعني الالتفات لدوائر الهشاشة، واستكمال حاجيات نضجها، فبالرغم من وجود مجتمعات «غضة الحداثة» إلا أنها تمثل نموذجاً في طور تقدمه لا يمكن تجاهله من معادلة النهضة والحداثة بعد الحداثة العالمية.


د. محمد البشاري 
أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة