في عام 1453 سقطت إسطنبول عاصمة الإمبراطورية البيزنطية في ذلك الوقت، بيد العثمانيين بقيادة محمد الفاتح. وصل نبأ السقوط التاريخي المدوي إلى الفاتيكان بعد 40 يوماً. وفي 11 سبتمبر 2001 أُسقط برجا التجارة العالمية في نيويورك بعملية إرهابية. وصل نبأ سقوط البرجين بالصوت والصورة إلى كل أرجاء العالم بعد ثوان قليلة. تشير المقارنة بين المعرفة بالحدثَين اللذين غيّرا العالم إلى المدى الذي وصلت إليه العولمةُ.

ليس صحيحاً أن العولمةَ ظاهرةٌ جديدة في الحياة الإنسانية. الصحيح أن عبارةَ العولمة مفردة جديدة للتعبير عن ظاهرة إنسانية موغلة في التاريخ. ظهرت العبارة في سبعينيات القرن الماضي، وانتشرت في تسعينياته. إلا أنها في معانيها وفي جوهرها سابقة لذلك. فالعولمة بدأت قبل 60 ألف عام مع الهجرة الأفريقية الأولى إلى آسيا وأوروبا.

ومنذ ذلك الوقت أصبحت العولمةُ ترافقُ تاريخَ الإنسانية. بل أصبحت صانعةً له. وقد لعبت أربع فئات دوراً مهماً في نشر العولمة المستمرة حتى اليوم. وهذه الفئات هي: أولاً: التجّار، بحثاً عن أسواق جديدة. ثانياً: الدعاة والمبشّرون، بحثاً عن مؤمنين جدداً.

ثالثاً: المغامرون، بحثاً عن عوالم جديدة. رابعاً: الأباطرة والقادة التوسعيون بحثاً عن شعوب ومناطق جديدة لإخضاعها لسيطرتهم. وما تزال هذه الفئات الأربع مستمرة بصورة أو بأخرى حتى اليوم. وقد ساعد على ذلك استحداث طرق ووسائل الانتقال والتواصل. ولعل طريق الحرير الصينية أشهرها.

ثم تطورّت عبر سكك الحديد والسفن التجارية، وبعد ذلك اكتشاف التلغراف قبل أن تصل الإنسانية على ظهر الكرة الأرضية، عبر الإلكترونيات الحديثة، في الاتصال والتواصل إلى ما يطلق عليه اليوم «القرية العالمية». لم تكن العلاقات الإنسانية تسير دائماً في اتجاه واحد نحو العولمة. اضطرت مرات إلى مواجهة طرق معاكسة، وصنعت لنفسها طرقاً ارتدادية عن العولمة. من الطرق الارتدادية المعاكسة التي واجهتها، انتشار الأمراض والأوبئة (كالطاعون أو الموت الأسود الذي ضرب أوروبا). ولعل ما واجهته الإنسانية مؤخراً نتيجة لانتشار فيروس «كوفيد-19» (كورونا) يقدم مثلاً صغيراً ومختصراً عن ذلك، إذ توقف كثير من الهجرات والتنقلات.

ومن الطرق التي صنعتها الإنسانية بنفسها لتعطيل العولمة، الحروب بدءاً من سقوط الإمبراطورية الرومانية، وحرب المائة عام في أوروبا، والحروب العالمية والبينية العديدة الأخرى. وفي العصر الحديث أدّت الإضطرابات الداخلية في بعض الدول إلى إطلاق حركة هجرات واسعة. قامت الولايات المتحدة على هذه الهجرات.

وتكوّنت مجتمعات في دول أميركا الجنوبية على هذه الهجرات أيضاً. واليوم فإن ثلث المسلمين الذين يزيد عددهم في العالم على مليارين ونصف المليار إنسان، يعيشون في دول ومجتمعات غير إسلامية، وكذلك فإن عدد المؤمنين بالمذهب المسيحي الأنجليكاني في أفريقيا يزيد عددهم على المؤمنين به في موطنه الأصلي، أي المملكة المتحدة. ويزيد عدد المؤمنين بالكنيسة الأميركية المشيخية في كوريا الجنوبية عن عدد المؤمنين بها في الولايات المتحدة ذاتها.

ومع العولمة التي تعيد صناعة المجتمعات الإنسانية الحديثة، تبرز ظاهرة سلبية شديدة الخطورة تتمثل في وجود أكثر من مليار إنسان يعيش الواحد منهم على أقل من دولار واحد في اليوم. ومعظمهم لم يسافر خارج المنطقة التي وُلد فيها، بل وحتى لم يجرِ مكالمة هاتفية. لا جديد في هذه الظاهرة، إنها تلازم بعض المجتمعات الإنسانية منذ قرون عديدة. وهذا التلازم كان سبباً أساسياً من أسباب الهجرة.. التي ما تزال تشكل العمود الفقري للعولمة.                  *كاتب لبناني