كتب ابن خلدون في المقدمة «أن العلماء بين البشر أبعد الناس عن السياسة ومذاهبها». وقد شرح هذا الحكم بأدلة لها جذورها في فلسفة أرسطو: «والسبب في ذلك أنهم معتادون النظرَ الفكريَّ والغوصَ على المعاني وانتزاعها على المحسوسات وتجريدها في الذهن، أموراً كلية عامة، ليحكم عليها بأمر العموم لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا أمة ولا صنف من الناس».

ما يعنيه ابن خلدون هنا هو أن العلماء أسرى أفكارهم النظرية وتقويماتهم الكلية التي لا تتناسب مع الوقائع المتغيرة والأحداث المستجدة التي يتعامل معها السياسي في ممارسته اليومية التي تخضع للتقلب المستمر والمراجعة الدائمة. رجعتُ إلى قول ابن خلدون في ضوء عدد من الأحداث الأخيرة التي عشناها في الساحة العربية والدولية. ففي الولايات المتحدة الأميركية، لم يعد أحد يشكك في تفوق الموهبة السياسية لرجل الأعمال القادم من عالم الصفقات العقارية الرئيس السابق دونالد ترامب على المؤرخ والقانوني الجامعي الرئيس الحالي جو بايدن.

وفي البرازيل يبدو أن العامل النقابي «لولا دي سلفا» سيستعيد قريباً مركزَه الرئاسي في الانتخابات الجارية. وفي باكستان من المرجح أن يعود لاعب الكريكت عمر خان إلى السلطة، على غرار لاعب الكرة جورج ويه الذي انتخب رئيساً في الدولة الأفريقية ليبريا. وفي العالَم العربي تقاسم السلطةَ نموذجان: المدرّس في التعليم الابتدائي في المرحلة الليبرالية الأولى والضابط العسكري منذ نهاية الخمسينيات. كان المدرس هو قائد التنظيمات الحزبية والحركات الأيديولوجية القومية واليسارية، وقد تحالف مع رجل المؤسسة العسكرية في الوصول إلى الحكم.

وفي عصر الانفتاح الاقتصادي والديمقراطي في الأعوام الثلاثين الأخيرة، صعدت إلى دائرة السلطة وجوه جديدة، أبرزها رجل الأعمال (من أمثال رفيق الحريري ونجيب ميقاتي في لبنان سابقاً وعبد الحميد دبيبة في ليبيا وعزيز أخنوش في المغرب حالياً). وتزامنت هذه التحولات مع انحسار حضور ونفوذ المثقف في الحقل السياسي، الذي فشل في الغالب في الاستفادة من ديناميكية التغيير والتحول السياسي.

في مصر، تراجع حزب النخبة المثقفة والتحديثية «التجمع الوطني التقدمي الوحدوي» إلى أدنى مستويات شعبيته، وحدث الأمر نفسه في المغرب حيث لم يعد «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» الذي كان ينحدر منه أبرز المثقفين المغاربة قوةً مركزية في الحياة السياسية.

وفي تونس، أخفقت كل مشاريع المثقفين الليبراليين في بناء خط سياسي فاعل ومؤثر بعد سقوط نظام ابن علي الذي كان يرتكز في بنائه المؤسسي والإداري على الإطارات المثقفة العليا. ليست الحالة خاصة بالعالم العربي، ولقد أشرنا إلى نماذج بارزة في الديمقراطيات الغربية وفي الديمقراطيات الآسيوبة والأفريقية الناشئة. فهل يتعلق الأمر بما تحدث عنه ابن خلدون من قصور العالِم والمفكر في تصور العمل السياسي من حيث هو فن القرار المستجد؟

لا شك في أن لهذا التفسير جانباً من الحقيقة، ولدينا كثير من الأدلة على سوء تقدير كبار الفلاسفة والمثقفين للحالة السياسية، ومن آخر تجليات هذا المسلك وقوف عدد من أبرز العقول الفكرية الألمانية المعاصرة مع العهد النازي في حقبة هتلر، من قبيل مارتن هايدغر وكارل شميت، ووقوف البعض الآخر من كبار فلاسفة الغرب مع الشيوعية الستالينية مثل جان بول سارتر. وفي عالمنا العربي انحازت وجوه فكرية بارزة للأحكام العسكرية الثورية المستبدة، ودافعت عن قراراتها الأكثر تسلطيةً وانحرافاً، ومن أبرزها احتلال الكويت عام 1990.

وفي سنة 1919 نشر عالِم الاجتماع الألماني ماكس فيبر كتابَه «العالِم والسياسي» مبيناً فيه أن طريقهما لا يلتقيان؛ فأولهما يستخدم أدوات التفكير الموضوعي والنقد الجذري ويتعالى على المصالح والتسويات النفعية ويصدر عن «أخلاق القناعة»، وثانيهما ينحصر اهتمامه في الدفاع عن السلطة الشرعية التي تحتكر العنف بالقانون، منهجه هو التكيف مع الوقائع المستجدة والتزامه هو بأخلاق «المسؤولية». لكن فيبر بيَّن في الوقت نفسه أن الشرعية الحديثة للدولة الوطنية تقوم على العقلنة والمرجعية الثقافية التداولية، ومن هنا صعود نموذج خاص من المثقفين في هياكل الدولة، هو الخبير البيروقراطي الذي يختلف عن المثقف النظري والمفكر الشمولي.

ما حدث مع التحولات السياسية الأخيرة في العالَم العربي هو تراجع وانحسار المثقف التنويري النقدي، في حين أقصت التنظيمات الأيديولوجية المتطرفة والشعبويات الصاعدةُ المثقفَ البيروقراطي الذي كان العمودَ الفقري للمؤسسات الإدارية والحكومية في العهود السابقة.

*أكاديمي موريتاني