قدم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد في خطابه الأول عددًا من الركائز التي تشير إلى شمول الرؤية ووضوح الطريق نحو المستقبل، ولعل مما يلفت النظر أنه اختار أن يكون خطابه الأول مُوجَّها إلى مواطني دولة الإمارات والمقيمين على أرضها، وأن يكونوا محور حديثه في كل النقاط التي تطرق إليها. لقد بدأ صاحب السمو حديثه بالعرفان للمغفور له الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، الذي استلهم من المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، نهجه وطريقته.

وأشار صاحب السمو رئيس الدولة إلى تلاحم القيادة في الدولة، التي جسدتها ثقة أصحاب السمو أعضاء المجلس الأعلى للاتحاد، وإلى التلاحم بين القيادة والشعب، بوصفها مصدر القوة في الانتقال إلى المستقبل.

وقد عكس الانتقال السلس للسلطة في دولة الإمارات تجذُّر الشرعية التي تستند إلى هذا التلاحم، وإلى الإنجازات التي تستحق الفخر بها. وقبل أن يبدأ صاحب السمو رئيس الدولة حديثه عن المستقبل أكد على الهوية بوصفها من أهم ركائزه. وكان حضور المقيمين جنبًا إلى جنب مع مواطني الدولة في الخطاب، والثناء على دورهم في تطور الدولة وتقدمها رسالة مهمة تعكس قيم الدولة وشخصيتها، وتترجم الحديث عن احترام الإنسان إلى واقع حقيقي تعيشه الدولة منذ تأسيسها، حيث يعيش على أرضها أكثر من مائتي جنسية في انسجام وتوافق واحترام كامل للتنوع والتعددية الثقافية والفكرية والحضارية.

لقد أكد الخطاب أننا نمتلك في دولة الإمارات ركيزة مهمة للقوة، وهي الانفتاح والتسامح وقبول الآخر، وأن ثقتنا بهويتنا ورسوخها فينا يجعلنا أكثر قبولًا للتنوع وترحيبًا به وحرصًا عليه. وإذا كانت بعض الشعوب تخشى التنوع وتتشكك في نتائجه، فقد حوله أبناء الإمارات إلى واحد من مصادر قوتهم، وانصهر الجميع في منظومة أساسها الاحترام المتبادل والإيمان بالأخوة الإنسانية إيمانًا راسخ الأركان.

وفي هذا الإطار، فإنني أدعو إلى التوقف عن استخدام تعبير «الخلل في التركيبة السكانية» الذي يُكرِّس صورة سلبية لظاهرة تمثل محصلتها نجاحًا أحرزته الدولة وأكدته بفضل قيمها التي غرسها الآباء المؤسسون.

ولقد ذكر صاحب السمو رئيس الدولة المواطنين والمقيمين أكثر من سبع مرات في خطابه، جنبًا إلى جنب، ليؤكد هذا المعنى ويُثبِّته في النفوس. كانت رسالة صاحب السمو رئيس الدولة أن المقيمين جزء من منظومة دولة الإمارات، وجزء من منظومة «عيال زايد» التي تمتد برحابتها المعنوية لتمثل هوية جامعة تشمل المواطنين والمقيمين، وكيف لا، وقد قال صاحب السمو رئيس الدولة إن دموعه انسابت حين امتزجت أصوات المواطنين والمقيمين وهي تصدح بالنشيد الوطني خلال برنامج التعقيم الوطني، في استجابة عفوية تعكس معاني أوسع للانتماء إلى هذا الوطن الطيب.

جدَّد صاحب السمو رئيس الدولة الحديث عن أحد الثوابت التي أرساها الوالد المؤسس، وهي اعتبار الإنسان أثمن الثروات وأغلاها، الإنسان أيًّا كانت جنسيته أو دينه أو معتقداته، وهو ما أصبح مفهومًا راسخًا لدى كل فرد من مواطني الدولة.

وعلى الرغم من ذلك الرسوخ، فقد حرصت الدولة على مأسسة هذه القيمة وحمايتها، بوضع منظومة كاملة من القوانين والتشريعات التي تضمن للجميع احترام هوياتهم وثقافاتهم وحضاراتهم وحقوقهم المادية والمعنوية، ضمانًا لاستمرار التنوع والتسامح، وإيمانًا بأهميته للمستقبل.

احترام التنوع والتسامح في الداخل، هو ذاته أساس السياسة الخارجية لدولة الإمارات، حيث تؤكد على التعايش والتفاهم والحوار وقبول الآخر والسلم والاستقرار، بوصفها جميعًا ركائز لتحقيق التنمية والازدهار وإقامة العلاقات السليمة بين الدول والشعوب. ولقد أصبحت دولة الإمارات نموذجًا مرموقًا في تحقيق هذه القيم، وهو النموذج الذي تستفيد منه دول كثيرة في العالم تسعى إلى استلهام التجربة الإماراتية.

وكما استفدنا من تجارب ناجحة لدول وشعوب مختلفة حول العالم، ولا نزال، فإننا الآن نقدِّم للعالم ممارسات وتجارب يمكن لها أن تفيد الإنسانية بأسرها. وكان الحرص على التسامح والتنوع والتعددية، هو الدافع إلى تصدي دولة الإمارات القوي لدعاة التطرف والإرهاب، سواء عن طريق القوة الخشنة ومواجهة تنظيمات الإرهاب المسلح من خلال التحالفات الدولية، أو بمقاومة الفكر المتطرف وتجفيف منابعه الفكرية والمالية.

وكان استشعار صاحب السمو رئيس الدولة الخطر المبكر لهذه التنظيمات الظلامية المتسترة وراء الدين من بين عوامل النجاح في إحباط مؤامراتها. ولولا تلك الوقفة الحاسمة من صاحب السمو رئيس الدولة، لكان كثير من دول العالم العربي يعاني دمارًا شاملًا، نجد نماذج مؤسفة له في بعض الدول العربية التي تمكنت فيها التيارات والجماعات المتطرفة من التغلغل والانتشار. وفي خطاب صاحب السمو رئيس الدولة، كان واضحًا أن اقتصاد الدولة يمضي بثبات وفق رؤية واضحة، وأهداف محددة، وخطط واضحة المراحل، وهو ما يجد طريقه إلى التنفيذ بسهولة ويسر.

وتقدم الشراكات الاستراتيجية التي وقعتها الدولة في فترة قصيرة جدًا دليلًا على أنها تمضي وفق رؤية مكتملة وواضحة. لا تكتفي الرؤية بالقوة التي يتمتع بها الاقتصاد الإماراتي الآن، بل تؤكد على تحقيق المرونة التي تتيح له التعامل مع المتغيرات والتحديات الطارئة، والتغلب عليها، فإذا كانت الطاقة الأحفورية أحد مصادر قوة الاقتصاد الآن، فإن دولة الإمارات تدرك أن التطورات المستقبلية قد تقلل من أهميتها، وهنا يأتي التأكيد على تنويع القاعدة الاقتصادية، وعلى مرونة الاقتصاد وحيويته، وعلى تنمية الاعتماد على التكنولوجيا والمعرفة الرفيعة لضمان استدامة الازدهار. وختامًا، فإن الخطاب المحكم لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، يضع ركائز متينة للمستقبل، ويعزز شعور التفاؤل والأمل والثقة في غدٍ يحمل المزيد من الإنجازات والنجاحات.

*كاتب إماراتي