«لا تُربّوا أبناءكم كما ربَّاكم آباؤكم، فقد خُلقوا لزمان غير زمانكم» مقولة منسوبة إلى الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- منذ أكثر من 1400 عام، تحثّنا بصراحة ووضوح على أن نُربّي أبناءنا لزمان غير زماننا، وأن نُعِدّهم للمستقبل، نظرًا إلى اختلافهم واختلاف زمانهم عمَّا نحن عليه الآن.

وهذه المقولة تمثل -بلا شك- واقعًا أكدته جائحة كورونا عندما وضعتنا أولَ مرة أمام جرأة التغيير والتحول في التعليم، التي كنا ننادي بها ونتحدث عنها زمنًا طويلًا، ولكننا كنَّا حذرين في تطبيقها، برغم جاهزية البنى التحتية، ووفرة الموارد البشرية والمادية، والأهم استعداد الطلبة لهذه النقلة، فالعالم التكنولوجي الذي بات بين أيدي أبنائنا جعلهم جاهزين للمستقبل أكثر مما كنا نتصوَّر.

ومع أن جائحة كورونا أربكت العالم، فإنها أربكتنا -نحن في دولة الإمارات العربية المتحدة- بالمعنى الإيجابي الذي جعلنا نحولها من تحدٍّ إلى إنجاز، فسارعنا إلى وضع خططنا المستقبلية موضع التنفيذ، وانتقلنا بسرعة كبيرة إلى التعليم الرقمي (التعلم عن بُعد)، مراهنين على الرؤى الوطنية، والجاهزية المؤسسية، وطبيعة جيل التقنية، فحققنا الأهداف، وواصلنا العملية التعليمية بنجاح، بل طوَّرنا نموذج «التعليم الهجين»، الذي طُبّق في أثناء رحلة التعافي من الجائحة، لنُوازن فيه بين التعليم الحضوري والتعلم عن بُعد، لكنَّ هذه التحولات التعليمية كشفت لنا عن تَحدٍّ جديد تَمثَّل في «مقاومة» الطلبة فكرةَ التعليم الحضوري، و«تفضيل» التعلم عن بُعد، وأنا على ثقة بأن كثيرًا من أولياء الأمور واجهوا هذا التحدي، ويشاركونني الرأي بضرورة مناقشته وحلّه.

وقد جعلنا هذا التحدي نتساءل: ما الذي دفع الطالب إلى التخلي عن عادة يومية تتمثل في الذهاب إلى المدرسة أو الجامعة، وتفضيل التعلم من المنزل أو من أي مكان آخر؟ وما المتعة التي وجدها بعيدًا عن المبنى التعليمي؟ لربما كانت هذه المشكلة موجودة من قبل إذا ما تعمقنا قليلًا في قضية الحضور الطلابي، وكيف كانت الإدارات التعليمية تواجه مشكلات غياب الطلبة قبل الإجازات السنوية وبعدها، وتحاول ربط الطالب بالاختبارات لضمان حضوره.

نحن إذن أمام مشكلة عميقة أخرجها التحول الرقمي إلى السطح، من أجل أن نُعيد التفكير فيها، ونرى كيف نُعيد التوازن بين الحضور الطلابي والدراسة عن بُعد من دون مساس بجودة التعليم ومخرجاته، ومع ضمان مواكبة التطورات التكنولوجية وشغف الجيل. فهل تجربة التعلم عن بُعد، وما خلَّفته من مقاومة الطلبة التعليمَ الحضوري باتا يُهددان فعلًا باختفاء الحرم الجامعي أو المدرسي النمطي؟

تساؤل دفعني إلى طرح تصور جديد للحرم الجامعي أو التعليمي سمَّيته حرم المستقبل «هايبر هجين»، وجاء من نظرة تحليلية لواقعنا التعليمي، وتحديد العوامل التي تجذب جيل اليوم، إذ يجمع «هايبر هجين» بين ثلاثية التعليم الحضوري، والتعلم عن بُعد، وثقافة الترفيه، وهذا التصور له أبعاد في طرحه استندتُ فيها إلى تحليلٍ لجانبين وإن كانا غريبين بعض الشيء، هما: تطور فكرة «المولات» التي تُعَدّ أكثر الأماكن جذبًا للشباب، وتطور مفهوم «التعليم الجامعي»، الذي جاء ليُراعي القدرات والفروق الطلابية، لا ليكون نموذجًا واحدًا للجميع.

وحتى لا أخوض في التفاصيل -نظرًا إلى محدودية المساحة هنا- سأكتفي بتوضيح أن هذا التصور الجديد سيُعيد التوازن بين التعليم الحضوري والتعلم عن بُعد، عن طريق إعادة هندسة الحرم الجامعي لجعله أكثر متعةً وجذبًا للطلبة الذين أصبحوا يميلون إلى الدراسة عن بُعد، فهذا النموذج يتيح الآتي:

1-    التوسع أكثر في استثمار المساحات المخصصة للدراسة التطبيقية، والممارسة، والابتكار، وريادة الأعمال، والأنشطة الجماعية، وإنشاء مختبرات ومعامل للعمل والإبداع تدعم التنمية المهارية.

2-    الحفاظ على مكتسبات تجربة التعلم عن بُعد، التي يمكن قصرها على المساقات النظرية التي لا تتطلَّب الحضور المستمر.

3-    إيلاء الجانب الترفيهي الذي يجذب الطلبة اليوم أهمية كبيرة (نجدهم يمضون ساعات في «المولات» -برغم كونها مبانيَ مغلقة- من دون ملل)، وذلك بإنشاء مناطق ترفيه وأماكن لممارسة الهوايات وتفريغ الطاقات والمواهب، أي أننا نريد مبانيَ تُمثّل مدينة متكاملة للتعلم والابتكار والترفيه. الخُلاصة أننا لا نتوقع اختفاء الحرم الجامعي في ظل مستقبل يتحدث عن مهارات تطبيقية واحترافية وتنافسية، حتى ونحن نتحدث عن التكنولوجيا المتقدمة «ميتافيرس» التي ستصبح -بلا شك- جزءًا من المنظومة التعليمية، ولكنها لن تغني عن الحضور الفعلي والتواصل الحقيقي، لذا فلنبدأ منذ اليوم العمل على بناء حرم المستقبل، حتى لا تتحول جامعاتنا متاحفَ غدًا.

الأستاذ الدكتور/ عبداللطيف الشامسي.

مدير مجمع كليات التقنية العليا.