يبدأُ الجهل البنيويّ المركب والجهل المؤسسيّ من تلك النقائص الكامنة في جزء من المورث القيمي والثقافي والروحي والذي يتبلور جلياً في بعض العادات والتقاليد والممارسات والأنماط السلوكية والفكرية والمزاج العام للمجتمع وخاصة ما يعتبره المجتمع جزءاً من هويته التاريخية وأصالته، وبالتالي هو مقدس وغير قابل للنقد. وينعكس ذلك في الحياة اليومية والنظام التعليمي في تلك المجتمعات، والذي تكونُ المدارس وبرامج التعليم فيه هي الأرض الخصبة التي ينطلق منها جهل يستمر مع الطلبة مدى الحياة وحصر المعرفة في العلوم التجريبية كجزء من التجميع وليس الاختراع، وبغض النظر عن التعليم الذي سيحصلون عليه لاحقاً في الحياة وتطوير الذات والفكر الذي سيساهمُ في التخفيفِ من تبعاتِ ذلك الجهل المتوارث.
والجهل مغروس في كيان الإنسان كطبيعة يحاول التغلب عليها بشتى السبل وإن لم ينجح في ذلك أو أن يعتقد أن الجهل صفة غير ملازمة للكائن العاقل الذي يعقل لأنه يعرف حدود جهله يقوم بصنع أصنام للجهل، ويقوم بتبجيل تلك الأصنام المادية والمعنوية، وذلك على غرار التاريخ المكذوب الذي يصبح جزءاً من حياة الشعوب وأفكارهم الراسخة، ويقسم المجتمع الواحد لطبقات مختلفة وفي كل طبقة فئات متنوعة، وآخرون هم المنبوذون من تلك التقسيمات بسبب تراكمات الجهل والتي تترسب بسببها الفقاعات الذهنية على الجزء الخاص بالمنطق في منظومة أتخاذ القرار لدى الإنسان.
وجزءٌ مهم من الجهل البنيوي المؤسسي هو المفاهيم التي تُدرس، والتي تُعتبر كذلك مسلّمات بين الشعوب، كأن تُقسم الحضارات إلى مسمى جغرافي أو ديني بدلاً من القول إن الحضارة الإنسانية هي أطياف من المعرفة والإنتاج الفكري المتواتر عبر العصور. وقد ساهمت فيه كل المجتمعات الإنسانية ككل، لا أن ننسب التحضر والعلم والابتكار لثقافة دون غيرها، وبالتالي تكريس «العبودية الفكرية». فبعد أن نجح البشر في تحرير جسد الإنسان من كونه ملكية فردية، أصبحت «العبودية» نظاماً كاملاً لا مفر منه من اقتصاد ومال وقيم وعلم وصحة وثقافة وموارد غذائية ومائية.. إلخ، تتحرك وفق أفضلية مركزية لمن يُهمين على مفاتيحها كأهمية فوق أنسنة الإنسان، ونظام مالي مصمم ليعيش الإنسان حياته يسدد الديون فقط، وهو ما تمر به معظم الدول كذلك وليس فقط الأفراد.
ومن أبرز معاقل الجهل البنيوي في عصرنا الحالي وما هو قادم، ما يتعلق بمنظومة الإعلام والفنون، الإعلام الذي يبرمج الناس: كيف يعيشون وماذا يستهلكون؟ وفي حال الرغبة في تناول معضلة الإعلام الرقمي والإعلام الذكي، نجد أنّ المسألة للحكومات العربية يجب ألا تقتصر في الرد على «تويتر» ومنصات كـ«الفيسبوك» و«الإنستغرام» و«الواتساب» على سبيل المثال، وصناعة منصات رأي عام تؤثر على فئة هي لا تحتاج لتأثير في المقام الأول.
ويغيب عن القائمين على تلك المنظومة أنّ هناك الإعلامَ غير الظاهر على السطح وإعلام الظل و«الإعلام المتوازي»، وكأننا نعيش في عوالم مختلفة، هو الإعلام الذي يصنع الجهل أو يساهم في التعرض للإشعاعات الفكرية السامة والتأثير اللاشعوري في توجيه الشعوب وخلق انطباعاتها وقناعاتها الأقوى مع مرور الوقت، وهي التهديد الأخطر في الوقت الحاضر ويفوق تهديدات الأمن السيبراني مجتمعة؛ لأنه يمر دون رقابة تحت الرادار وتأثيره عابر للأجيال.
والجهل سلاح فتاك تستخدمه الأمم المهيمنة على العالم وثقافتها ككل ضد بقية العالم، وكلما بقيت هذه الأخيرة في ظلال الجهل الباطني والمعرفة الظاهرية، وظلت تلك المجتمعات أسواقاً استهلاكية للأفكارِ قبل البضائع، أصبح الحصول على ما لديها أسهل، واستغلالها للصالح العام للدول الكبرى أكثر فعالية، وتوجيه النشاط الإنساني في العالم ككل وفق ما هو متاح من موارد في العالم ونسبة الاستهلاك والتغير الذي ستواجه الكرة الأرضية، وبالتالي تحول الإنسان نفسه لمادة استهلاك قابلة للخصخصة؛ ولذلك الجهل ليس وضعية مؤقتة، بل رحلة حياة تتراوح فيها درجات الظلام لحين خروج الإنسان للنور الكامل والمعرفة الأزلية.
* كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات