كان محقاً للغاية ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان عندما قال إنه غير مستعد لإهدار ثلاثين عاماً في محاربة أصحاب الأفكار المتشددة وأنه سيمضي قُدماً نحو التغيير المجتمعي.. كان ذلك الحديث المعلن هو الفعل الصحيح الذي تحصده السعودية واقعاً من خلال إصلاحات بنيوية واسعة استطاعت في فترة وجيزة إحداث تغييرات مجتمعية ملموسة. ما فعلته السعودية فعلته دولة الإمارات العربية المتحدة عندما اعتمدت نهجاً منفتحاً على الثقافات والمضي تجاه تحديثات المستقبل.

عندما نشر سيد قطب (جاهلية القرن العشرين) حدد القطيعة الكاملة بين تعايش المجتمعات في رفض لفكرة القبول بالتعايش، وهو ما كرّس في الواقع نمو التطرف عند فئة احتكرت الحقيقة والوصاية على العقل العربي. المتأسلمون بكافة مذاهبهم وطوائفهم وتياراتهم ينطلقون من مبدأ احتكار الحقيقة، فهم وحدهم من يمتلكون الرأي المسدد، من هذه النقطة كانت جاهلية القرن العشرين، وستكون كذلك امتداداً للقرن الحادي والعشرين، فلم يحدث تغيير أصلاً في نواة المعتقد لذلك لن تحدث في المجتمعات تغيرات يمكنها أن تؤثر في آراء أصحاب الفكر الإسلامي المتشدد.الحكم على المجتمعات بالجاهلية وفّر المناخ الملائم لتيارات الإسلام السياسي للحصول على مادة التطرف، وهو ما استخدمته كافة التيارات وحققت أهدافها.

ما بذره حسن البنا من أفكار سقاها سيد قطب وغيره من الشخصيات التي حتى الآن مازال العقل العربي يتعامل معها على أنها شخصيات فكرية وليست إرهابية، فهذه من صنائع ما صنعته حقبة القطبيين الذين نسجوا في العقل العربي نسيجاً من إرهاب فكري. تم صناعة سياج حول قدسيات تم تشكيلها في الذهنية العربية على أساس أنها ثوابت كوصفهم لمؤسس جماعة «الإخوان» حسن البنا أنه (الإمام)، وهذا يُنافي تماماً الواقع الذي يقول إن البنا كان مدرساً، بل أنه مات وهو يحمل صفة صحفي بحسب الوثيقة الرسمية الأخيرة التي كان يحملها عند مقتله، فكيف جعلوه إماماً ولمصلحة ماذا فعلوا ذلك؟ هذه أسئلة مثارة في إجابتها تكمن صناعة القدسيات.

وعلى غرار هذا الأنموذج تم نسج العديد من القدسيات المفترضة التي من ورائها نجحت تلك التيارات في احتكارها للرأي ثم حدث الأخطر بما أنها تحتكر الرأي. فلقد احتكرت القرار، وعلى ذلك ذهب كل ما يفترض أنه يأتي ضمن مراجعات فكرية لهذه التيارات والجماعات مع الرياح. حتى الكذب باسم الدين بل باسم الله وجدوا له من المسوغات والطرق الالتفافية من حوله. فعبر (التُقيّة) وحكم المتغلب وغيرها من المصطلحات، يتم التهرب والتملص من دجلهم وأكاذيبهم.

ولعل المراجعات التي قدمتها «الجماعة الإسلامية» في مصر بعد حادثة اغتيال الرئيس السادات تؤكد بما لا يدع للشك استحالة التغيير أو حتى التأثير في هذه الجماعات، فهي لن تغادر نواتها الصلبة مهما كانت المحاولات في فتح حوارات معها، بل إن الجماعة الإسلامية نفسها انتجت تنظيم «القاعدة» ثم «داعش»، وكذلك فعلت الثورة الخمينية التي انتجت «حزب الله» و«الحوثيين» و«الحشد الشعبي».

في المقابل وحتى لا يتم إهدار الوقت في حوارات لا طائل منها مع رؤوس من صخور فإن الإرادة السياسية وحدها القادرة على التغيير وتحديث المجتمعات وإطلاق روح التنافس الطبيعية، بدلاً من حمل المطارق لتحطيم تلكم الصخور، التي مهما تحطمت فإنها لن تغير في الواقع شيئاً يُذكر، ويكفي الفرص التي أتيحت للحوار بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، والتي بالفعل لم تحدث تغييراً يذكر بل ظهرت الذئاب المنفردة كظاهرة تعزز مقاربة مفادها أنه لا يمكن اجتثاث الفكر المتطرف عبر السياسات التقليدية، وأن الإرادة السياسية وحدها القادرة على حمل المجتمعات للخلاص من جماعات عالقة في أزمنة الجاهلية فمهما تحدثت معها فهي ستخرج بنتيجة واحدة تقول: فازت الجاهلية.

* كاتب يمني