في شتاء 2018.. وبينما كنتُ أتجول في العاصمة اليابانية طوكيو، لاحظتُ النشاط الكبير الذي عليه كبار السنّ، وكنت أندهش من السيدات اللائي تجاوزن الثمانين من العمر، ويقطعن إشارة المرور في مجموعة كبيرة، قاصدين أحد المقاهي، للجلوس والنقاش

.ولمّا زرتُ العاصمة القديمة كيوتو، زادت دهشتي من أولئك العمال المسنين في مواقع مختلفة، ليس فقط في المجال السياحي والفندقي، وإنما حتى في مصانع وورش الأعمال اليدوية الشاقة.

وبعد أيام من الزيارة أدركتُ أن التعامل الياباني مع فكرة التقدم في العُمر ليس شبيهًا بالتعامل في العالم العربي، ففي كثير ممّن أعرف ألاحظ ظاهرة «التقاعد النفسي المبكّر»، إنّه سنّ تقاعد شعوري، حيث الإحساس بخريف العمر ونهاية الرحلة، ومن ثم محاولة الخروج الآمن من المسؤولية، وقطع طريق الفعل والعطاء، تحت حجة ثابتة: لم يعد هناك متّسع من العُمر لفعل ذلك.

يحاول «المتقاعدون النفسيّون» أن يتدثروا بأيّة معارف دينية، تبريرًا للقرار الإرادي بالعجز والكسل. وهو أمر يخالف صحيح الدين الذي يدعو الإنسان للعطاء حتى اللحظة الأخيرة، وأن يعمل لحياته كأنه يعيش أبدًا، بل وأن يظل يعمل حتى لو بدأت أمامه مشاهد يوم القيامة، فإنّ كان معه فسيلة فليزرعها.

في اليابان يعيش نصف مليون معمّر يتجاوزون جميعًا المائة عام، ويواصل عدد كبير منهم جدول أعماله، وكأنه يخطط لعديد من السنوات القادمة، وفي تقديري فإن هذه واحدة من أهم مظاهر القوة عند اليابانيين: لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس. المثير في هذا السياق هو تطور أبحاث الشيخوخة، وقطع علماء البيولوجيا، والتكنولوجيا الحيوية مسافة جادّة في طريق محاولات إبطاء الشيخوخة، ودفعها نصف قرن آخر في حياة الإنسان.

تقوم الفرضية الرئيسية لعدد من العلماء في هذا الطرح، على أن الشيخوخة ليست حتميّة، وأنها مجرد مرض مثل العديد من الأمراض، ويمكن علاجها كمرض، بما يدفع الإنسان بعد العلاج للمضي عقودًا أخرى من العمر.

إن الشيخوخة - بحسب هذا الطرح - ليست ظاهرة ناتجة عن أمراض تقدم العمر، بل هي المرض المسبّب لهذه الأمراض، وإذا أمكن علاج ذلك المرض، نكون قد عالجنا هذه الأمراض. وإذا كان بعض الأفراد الذين تجاوزوا التسعين والمائة عام يعيشون بصحة بيولوجية وعقلية جيّدة، فهذا يدل على أن الأمر ليس حتميًا، وأنه يمكن العمل على أن يكون ذلك نمطًا سائدًا في الحياة المعاصرة. وفي كتاب صدر بعنوان «دورة الحياة.. لماذا نتقدم في العمر؟ ولماذا لسنا مضطرين؟»

يشرح عالم الوراثة الشهير ديفيد سينكلير تلك الأطروحة وحججها العلمية. صفوة القول في هذا.. أنَّهُ بينما يبحث العلماء في مكافحة مرض الشيخوخة وإطالة عمر الإنسان إلى ما بين (150) و(200) عام، فإن البعض على الجانب الآخر قد استراح للتقاعد النفسي المبكر، والإنهاء الطوعي لمسيرة الحياة.

*كاتب مصري