كانت الانتخابات الفرنسية الأخيرة وفوز الرئيس الوسطي «ماكرون» على منافسته «لوبان» والتي تمثل اليمين القومي المتطرف بنسبة 58.54% مقابل 41.46%، وبهامش يزيد على 17 نقطة انتصاراً باهتاً، وعكس استمرار صعود اليمين المتطرف، وهو ما سيسبب صداعاً كبيراً خلال السنوات المقبلة لكل الدوائر الانتخابية في فرنسا، وأوروبا على وجه العموم على مستوى الممارسات السياسية وعلى المستوى الشعبي، وستتحد قوى اليمين المتطرف في السنوات القادمة في القارة العجوز وترجع للعقول ذكريات لا يرغب العالم في تذكرها.
فقد بلغت الأفكار التي يمثلها التطرف اليميني ذروتها في فرنسا، وستكون الانتخابات التشريعية المقبلة في 12 و19 من يونيو المقبل فرصةً سانحة لحزب التجمع الوطني لتشكيل معارضة حقيقية لماكرون وللمؤسسة السياسية الفرنسية، وستظهر تلك الانتخابات التشريعية ما إذا كان «ماكرون» سيكون قادراً على تمرير قوانين جديدة بسهولة، أو مواجهة عقبات صعبة لتمرير أجندته المؤيدة للأعمال الداعمة لسياسات الاتحاد الأوروبي في الداخل الفرنسي، وما ستسفر عنه المعارضة اليمينة للسياسات والقرارات والمشاريع الحكومية التي لا تتوافق مع توجهاتها، مما قد يعمق الشرخ الموجود واقعاً في المجتمع الفرنسي المنقسم على نفسه تحت ستر المدنية والتحضّر والديمقراطية وحرية الرأي، ولذلك ستكون أهم التحديات في فترة ولاية «ماكرون» الثانية هي توحيد فرنسا وهو أمر مستبعد تماماً، وعلى النقيض من ذلك ستنشط حركات المناهضة الشعبية لصعود اليميني المتطرف من المهاجرين والأقليات غير الأوروبية المسلمة والطبقات العاملة المهمّشة التي لا تؤمن بالتوجه اليميني، دون أن ننسى اليسار المتطرف والأحزاب البيئية.
توضح نتائج «لوبان» في الانتخابات أن غالبية ناخبي الطبقة العاملة والتي تركزت في المناطق الريفية والضواحي مدى الانقسامات في المجتمع الفرنسي، والتي ستجعل ولاية «ماكرون» الثانية مضطربة مثل الأولى، وخاصةً بعد أن اكتسبت الأجنحة السياسية المتطرفة في فرنسا قوة تحسب لها في السنوات الأخيرة، وصعود نغمة استرداد أوروبا من غير الأوروبيين وخاصةً ممن يمثلون الديانة غير المسيحية.
ومن جهة أخرى، إن الفشل في التعامل بشكل مناسب مع المشكلات التي تغذي دعم اليمين المتطرف لا يجعل المشكلة تختفي وهو طوفان سيغرق أوروبا، وحتى قبل نتائج الانتخابات الفرنسية كان اليمين الفرنسي رابحاً كبيراً، ويظهر ذلك جلياً في هيمنة الأفكار اليمينية في حملة الانتخابات الرئاسية الفرنسية، حتى بعد سنوات من الحروب الثقافية التي شنها المحافظون بنجاح نسبي على شاشات التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي ومراكز الفكر، ولكن ماذا عن انصهار أنصار الأحزاب الأخرى في الحزب اليميني؟ وتحول ناخبوهم إلى اليمين على مدار السنوات العديدة الماضية، مما أدى إلى تغيير الحدود السياسية التي ظلت صامدة لعقود.
أن التحول إلى اليمين هو انعكاس للتغيرات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية في فرنسا، بما في ذلك زيادة الهجرة وتلاشي القطاع الصناعي. وفي ظل حالة التراجع، هناك المزيد والمزيد من الناخبين الذين يحتاجون إلى كبش فداء، وكبش الفداء هذا هو الهجرة والأقليات والآخر المختلف، وهو أمر لا يقتصر على اليمين المتطرف، وإن كانت توجد معارضة سياسية حقيقية لهذه الموجة الفاشية. ومن كانوا بالأمس ألد أعداء اليمين المتطرف كاليساريين العلمانيين هم اليوم من بين أكثر المنتقدين صراحةً لظهور المهاجرين، وخاصةً المسلمين في الأماكن العامة بزيهم الذي لا يمثل مبادئ الجمهورية الفرنسية، وهو مما أنتج يساراً عنصرياً، وبالتالي التقارب مع الاشتراكية القومية.
وأصبح اليمين المتطرف حزب من لا حزب له، وحزب كل من يرى فيه القوة الحقيقية التي تمثل القيم الفرنسية قبل قدوم المهاجرين. وبعد أن كان تعبير المرشح الرئاسي اليميني عن وجهة نظر يمينية متطرفة أمراً مستحيلاً، يعد اليوم عدم فعله ذلك انتحاراً سياسياً، بل يعتبر ضرورة سياسية، والقواعد تغيرت وولدت أوروبا جديدة ستسودها الاضطرابات الاجتماعية لتنهار من الداخل.

كاتب وباحث إماراتي متخصص في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات