يُمثّل صعود القوى العظمى في النظام الدولي تحديًا سياسيًّا ووجوديًّا للقوة المهيمنة على هذا النظام، لكنَّ تغيّر بنية النظام الدولي يُعَدّ أمرًا طبيعيًّا ومحتومًا لاستمرارية النظام كلّه، إذ لا يمكن تصور أن تكون دولةٌ ما مهيمنةً على النظام الدولي إلى الأبد.

وكما يقول بول كينيدي في كتابه «نشوء وسقوط القوى العظمى»، فإن صعود الأمم لا بدَّ أن يمر بنهاية محتومة تُنذِر بانهيار القوة المهيمنة، وتبشّر بقدوم قوة أخرى بديلة.

ولو لاحظنا تطورات النظام الدولي منذ بدايات القرن العشرين، لوجدنا أنه مَرّ بمراحل تكوينية مختلفة عكست -بوضوح- تفاوت القوى السياسية الدولية التي اشتبكت مع أقرانها إما بالتعاون وإما بالصراع، لضمان بقائها فاعلةً في الساحة الدولية. وتحدِّد المفاهيم السياسية حدَّة الاشتباك بين القوى العظمى ودرجته، فبحسب مدى التنافر والتضاد والاختلاف بينها يمكننا رصد التفاعل الذي قد يمر بمراحل عدَّة مختلفة من الصراع والتوتر والتنافس، وصولًا إلى أعلى درجات التصعيد المتمثلة في الحرب، ولذلك يُعَدّ الفوز بمكانة القيادة العالمية المحفِّز الرئيسي لكل القوى العظمى، فكلٌّ منها تسعى إلى أن تكون قوة عالمية معترفًا بها، وهذا ممَّا يفسّر الاندفاع الصيني نحو قمة النظام الدولي.

ولا شكَّ في أن أميركا، بصفتها قوةً مهيمِنةً، لن تقبل الصعود الصيني الذي يهدد تفرّدها بقيادة العالم، ولذا يرى كثير من علماء السياسة أن أميركا ستُجيّش كل قدراتها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، لاحتواء الصعود الصيني مهما كلف الأمر. وهنا يكمن التخوف من أن يصل هذا التطور الدولي إلى ذروة التصعيد المتمثل في تصادم عسكري مباشِر بين أكبر قوتين عُظميين في الساحة الدولية، يُنذِر ببداية حرب عالمية ثالثة.

ويُعبّر اختلاف السلوك السياسي بين الصين وأميركا عن عدم التوازن الاستراتيجي الذي سيُسببه الصعود الصيني، في حين تعمل أميركا جاهدةً عن طريق تطوير قدراتها على مختلف الصعد من أجل ضمان ريادتها السياسية عالميًّا.

وقد يُمثّل اختلاف السلوك السياسي بينهما تهديدًا وجوديًّا لكل طرف، كما أن تباين المنطلقات الفكرية والأيديولوجية للقوّتين، وتضارب المصالح الوطنية لكلٍّ منهما قد يعززان فرص هذا التصعيد. والهاجس الأكبر في هذه المسألة هو أن يقع كلٌّ من الطرفين المتصارعين في ما يُعرَف بـ«فخ ثوقيديدس» -المنسوب إلى المؤرخ اليوناني ثوقيديدس الذي يُشير إلى ما حدث في الزمن القديم بين أثينا وإسبرطة، والدمار الذي حلَّ بهما نتيجة الحرب التي امتدت ثلاثين عامًا- ومفاده أن صعود قوة عظمى لتحدي قوة عظمى أخرى مهيمنة قد يجعل مسألة انجراف كلتا القوتين إلى الحرب أمرًا محتومًا، ومن ثَمّ تصبح فرضية وقوع حرب عالمية ثالثة أمرًا واقعًا يجب على العالم التعامل معه.

بعد الحربين العالميتين أدركت الدول الأضرار الكارثية المدمّرة الناجمة عنهما، فالخسائر الباهظة الثمن جرّت ويلات كثيرة اقتصادية، وسياسية، ونفسية على مختلف الدول، إضافة إلى الخسائر في الأرواح البشرية، ومن ثَمّ تحاول القوى العظمى ألا تتصادم مع مثيلاتها مباشرةً، وهذا ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، وعُرِف بمرحلة الحرب الباردة، غير أن مسألة قيادة العالم تبقى أمرًا جاذبًا للقوى العظمى، وهي الغاية الأسمى لكل مَن يرغب في التحكم بشؤون العالم الذي ينقسم اليوم إلى قوًى عظمى سائدة، وأخرى صاعدة.

د. علي حصين الأحبابي*

* أكاديمي إماراتي