مع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أصبحنا في حقبة جديدة، ودخلنا في تغيرات جيوسياسية واسعة في أوروبا وفي أهداف «حلف شمال الأطلسي» (الناتو)، وربما النظام العالمي برمته. ولربما سنصبح في حقبة قد تستعيد فيها الصينُ السيطرةَ على تايوان ويزداد نفوذها في منطقة جنوب شرق آسيا، وقد تنشأ عن ذلك ثلاث كتل في العالم، أميركية وروسية وصينية. إلا أنه قد تعم الفوضى والصراع العالميين، حيث ستتكيف كل منطقة من مناطق العالم بشكل متزعزع مع التكوين الجديد للقوة.
ومؤخراً قررت السويد، كما كان متوقعاً، السير على خطى فنلندا وإعلان رغبتها في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) في تغير تاريخي لموقف هذين البلدين الإسكندنافيين اللذين لم ينضما أبدا إلى «الناتو» حتى خلال الحرب الباردة، لكنهما عادا الآن وغيَّرَا موقفهما الحيادي بعد تداعيات الأزمة الأوكرانية. غير أن مساعي الدولتين تصطدم بموقف تركي رافض، مما يثير شكوكاً حول احتمال التوصل إلى إجماع، داخل الحلف، من دون صعوبة.
إذن تواجه منظمة حلف شمال الأطلسي، التي اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في عام 2019 أنها دخلت في «حالة موت دماغي»، تحدياً أوروبياً جديداً. ومع طلب كل من فنلندا والسويد الانضمام إلى هذه المنظمة، بدأ يظهر الدور المركزي الذي بات يلعبه «الناتو» والتواجد الأميركي فيه... فلم نعد نسمع كثيراً عن الحكم الذاتي الاستراتيجي لأوروبا، لأن الجميع بدأ يفهم الدور المركزي الأميركي في الحلف الأطلسي، فالرئيس الفرنسي كان يشرح قبل الأزمة الأوكرانية استراتيجيته الأمنية الهادفة إلى أن تكون أوروبا قادرةً على الاحتفاظ بمكانتها في عالم يُهيمن عليه عمالقة مثل الولايات المتحدة والصين، شرحاً مستفيضاً، وكان يبرز الاختلافات الثقافية والجيوسياسية بين الطرفين الواقعين على جانبي المحيط الأطلسي، ويوضح في خرجاته الإعلامية أن أوروبا ينبغي أن تسعى وراء إثبات أهميتها الاستراتيجية «لنفسها» و«التصدي للاحتكار الصيني الأميركي المزدوج». وقد ظل الرئيس الفرنسي لعدة سنوات يُردد كلماته التي مفادها أن فرنسا الأكثر قوةً لن تتحقق سوى من خلال أن تكون أوروبا أكثر قوةً، وهو الأمر الذي ظل لعقود جزءاً من بصمة فرنسا الوراثية السياسية. وظهر موقف الإليزيه تجاه حلف الناتو، على سبيل المثال، منذ عهد الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول، الذي سحب القوات الفرنسية من قيادة الحلف في عام 1966، وهو القرار الذي اتُخذ نقيضه تماماً بعد 40 عاماً فحسب.
واليوم، لم نعد نسمع عن هذا الحكم الذاتي الاستراتيجي العسكري للاتحاد الأوروبي، فالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وضعت حداً لأوهام الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي. فالأوروبيون عن بكرة أبيهم لن يتمكنوا من استبدال دور أميركا الحاسم بوصفها موفرةً للأمن ومزودةً بالسلاح والعتاد، دون أن ننسى المعلومات الاستخباراتية التي توفرها للحلفاء، حيث أبانت عن تفوقها في هذا الجانب على كل الدول الأوروبية مجتمعةً في الأزمة الأوكرانية، رغم بعد أوكرانيا جغرافياً ورغم تعدد الدول الأوروبية وقربها من ساحة المعركة. 

أكاديمي مغربي