الموت حق على كل إنسان، وأول الإيمان يكون بيقين ذلك، فرحم الله الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان. وفي تفاصيل الحياة التي يجب أن تستمر، ثمة أصول وقواعد انتهجتها البشرية في تاريخها عبر مجتمعاتها المتنوعة، لتعيش هذه المجتمعات جيلاً بعد جيل تتواتر معرفتها المكتسبة، فتتطور الحياة عبر الإنسان ويتقدم الإنسان في الحياة. ولعل أرقى ما وصلت إليه البشرية في تاريخها الطويل هو مفهوم «الدولة» حيث تتجلى ذروة فكرة التنظيم المجتمعي. والعالم اليوم بكل مجتمعاته وثقافاته وكينوناته المتعددة والمتنوعة يقع في تصنيفات متعددة من مفاهيم الدولة على أكثر من صيغة، كل مجتمع يتواءم مع الصيغة التي تتماهى وخصوصيته الثقافية والاجتماعية، وسر نجاح نظام الدولة كونه مرناً ويتقبل التكيف مع المجتمع الذي ينمو ويتغير هو الآخر.
أسوق هذه العجالة المكثفة وأنا الذي عايش في طفولته المبكرة جداً، ميلاد دولة في إطار مفهوم راقٍ من الوحدة، وبقيتُ أراقبُها حيثما كنت وهي تكبر كما أكبر، فصارت تجلياً عالمياً لصيغة نموذجية من أرقى صيغ التنظيم المجتمعي في العالم كله. هذه الدولة بدأت شرارة فكرتها عند رجل تاريخي اسمه الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وبمعية إخوانه من حكام الإمارات الست، إلى جانب أبوظبي، حيث جرت صياغة دولة الإمارات العربية المتحدة، كفكرة وحدوية خسر مَن لم يلتحق بها وقت ولادتها.
وإذا كان المفكر المصري جمال حمدان قد ذهب في نظريته حول عبقرية المكان مذهباً فلسفياً، فإن عبقرية المكان بالنسبة لي في أبوظبي التي عرفتُها في السبعينيات والثمانينيات (وهي سنوات النشأة والارتواء الأساسي) كانت عبقرية الزمان أيضاً. ولا أخفي حباً كامناً بداخلي حين أقول إنها كانت أيضاً وستبقى دوماً عبقريةَ رجل فطري استلهم من صحرائه رحابَة الأفق، واستقى من قلبه كلَّ الحب اللازم لتكوين وطن، فكانت الإمارات تجسيداً لرؤية المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، وبإسناد استثنائي من المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم طيب الله ثراه. وبعدما تمت الوحدة وتم تسييجها بالمؤسسات التي تضمن بقاءها ونموها، صارت فكرة عامة راسخة للبناء عليها بعد التأسيس.
وهكذا كان، وقد لفت انتباهي لقب «قائد التمكين» الذي حمله الشيخ خليفة لأجد كامل الدقة في هذه العبارة الاصطلاحية، فهو الذي استلم قيادة الوحدة الاتحادية للدولة بأجمعها، وقد بدأت رؤية خاصةً لوالده المؤسس، فعزم على مواصلة البناء من أجل التمكين. وهذه صيغة عصرية جديدة لا تقوم إلا بالمواطنة، وهذه بدورها لا تقوم إلا على تمكين الإنسان فيها بالقوانين والمؤسسات المرنة القابلة للنمو، والنمو لا يكون إلا بالتكيف المطابق للواقع.. وكل هذا حققته التجربة الإماراتية.
وقد رحل الشيخ خليفة من دار الفناء إلى دار البقاء، وانتقلت لعضيده صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد قيادةَ الدولة وقد استوت قواعدها وترسخت وتمكنت.. وهو ما سيتم تعزيزه مستقبلاً.
رحم الله الشيخ زايد، المؤسس الكبير الذي خطَّ رؤيتَه على الرمال ذات يوم فصارت بناءً راسخاً، ورحم الله الشيخ خليفة الذي قاد التمكين ليستمر البناء ويعلو.. ووفَّق الله  صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد في تعزيز تمكين الدولة وقد ترسَّخ أساسُها وصارت نموذجاً في العالم كله.

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا