ليس من السهل عليّ الكتابة عن أشخاص يعنوني ويحتلون مساحة من قلبي، فكيف إن كنت سأستذكرهم عبر حروفي وقد باتوا اليوم في دار الحق. أعترف أن الكتابة عنهم في حال غيابهم هو فعل قاس للغاية، ومرّ طعمه، لأنني مع كل حرف أدوّنه أستعيد ذكرى لي معهم، وهو ما أعانيه الآن وأنا أكتب عن الشيخ خليفة الذي عايشته وعرفته عن قرب، وكنت مرافقاً لوالده على مدار سنوات.
حين أصبح الشيخ خليفة رئيساً للدولة كان يكمل مسيرة أبيه في كل ما يحمل الخير للإمارات والإماراتيين الذين كانت علاقتهم به وثيقة ووطيدة، وهي التي لم تكن يوماً علاقة شعب بحاكم، إنما كانت علاقة أهل مع بعضهم بعضاً.
على فكر الشيخ زايد نشأ الشيخ خليفة، بكل ما يحمله من نفس عزيزة وسمحة، ويد كريمة، ومحبة غامرة لكل من حوله وبكل من يتعامل معه، مترجماً النهج الذي تربى عليه، والسّنة التي اتبعها على مدار حياته، واليوم إذ تودعه الإمارات، بلداً وشعباً ومقيمين، فهي تودع رجلاً أحبّته لأنه خدمها، وأراد لها ما أراده والده، وحتى مع الظروف الصحية التي عانى منها، إلا أنه ظل حاضراً في وجدان أبناء الإمارات على وجه الخصوص، وفي قلوب من تعامل معهم عن كثب.
لا أريد أن أكتب عن المغفور له الشيخ خليفة بلغة تتشح بالنعي، إنما أحاول بقدر ما أستطيع ذكر خصاله الحميدة التي نهلها في بيت تشبّع بالمحبة والخير وعرف قدر العمل، كما آمن بأن الصلاح في الخلق هو الأبقى. صورة الشيخ خليفة بن زايد بن سلطان آل نهيان، بثغره الذي يفتر دائماً عن ابتسامة، وبهدوء شخصيته، وبلطفه المعهود، هي الصورة الأبقى في وجداني، ولهذا يحضرني وجهه الآن وأنا أكتب عنه ليضيء قلبي قبل كلماتي وعباراتي.
منذ أيام «العين» أذكره، وأذكر تفاصيل حياتية جمعتني به مثلما جمعته مع آخرين من أهالي المدينة، فأنا لم أكن الوحيد الذي عايشته عن قرب حتى قبل أن يصبح ولياً للعهد، خصوصاً وأن الشيخ زايد حرص على ترسيخ فكرة أن الحاكم وأبناءه يجب أن يكونوا متواضعين وقريبين من الجميع، فلا يغترّوا بحكمٍ، ولا يترّفعوا عن التعامل مع الناس، إنما عليهم أن يكونوا قدوةً، وذلك من باب أن الأخلاق هي التي يجب أن تسود.
الأعوام التي تفصلني عن الشيخ خليفة قليلة، ومعرفتي به كبيرة بحكم عدة أمور. كلانا ابنا مدينة واحدة كبرنا ونشأنا فيها، درسنا في المكان عينه، انتمينا إلى الكلية ذاتها وتخرجنا منها، وعملنا سوياً في خدمة الدولة لكن كل حسب موقعه، وبالتالي ما أكتبه عنه لا أدعيه، بل شهدته وكنت في كثير من الأحايين في صلب الحياة التي عاشها.
ذكريات كثيرة تحضرني وأنا أكتب مقالي هذا بحق رجل أحببته وسأظل، فهو المحب الودود، الصادق ذو الروح الجميلة، الكريم ذو اليد البيضاء، النقي كصفحة ناصعة. ذكريات تغمرني، فتبث فيّ الحزن والألم على فَقْد رجل أحترمه وأقدّر كل ما قدمه للإمارات، وأنا على يقين أن ما تركه وراءه من سيرة طيبة وسمعة حسنة ورقي تعامل، سيبقى حاضراً في أحاديث أبناء الإمارات الذين ودعوا قبل أيام جسده إلى المثوى الأخير ذاك الذي سيحجبه عنا، غير أن روحه ستبقى حاضرة لن تغادرنا.
نعم، إن العيون كلها تدمع.. «العين» التي ولد وشبّ فيها الشيخ خليفة، وعيون أبناء الإمارات الذين يبكونه وهو الرجل الذي أحبوه، واحترموا خصاله، وقدّروا جهوده، وستبقى كل الأعمال المسجلة باسمه جزءاً من تاريخ بلد نابض بالحياة وفيه رجالات عاهدوا أنفسهم أن تكون الإمارات منارة لكل ما هو جميل.