منذ العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، عبّر معلقون عن قلقهم بشكل صريح من إمكانية أن يؤدي تصعيد النزاع إلى حرب عالمية ثالثة. وفي منتصف مارس الماضي، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لقناة «إن بي سي نيوز» إن حرباً عالميةً ثالثةً «ربما تكون قد بدأت». وذهب رئيس الوزراء الأوكراني السابق أوليكسي هونتشاروك إلى أبعد من ذلك إذ قال: «إن الحرب العالمية الثالثة بدأت». ثم حذا حذوهما صحافيون غربيون حيث علّق برِت ستيفانز على العملية العسكرية الروسية قائلا: «هكذا تبدأ الحرب العالمية الثالثة»، وتساءلت الصحافة البريطانية ما إن كانت «الحرب العالمية الثالثة قد باتت حقيقة الآن في أوروبا؟».

وللوهلة الأولى، قد يبدو أن هذه الأقوال تنطوي على كثير من المبالغة. ذلك أن الحربين العالميتين الأولى والثانية طالتا عدة قارات، في حين أن الغزو الروسي الوحشي لأوكرانيا هو حرب بين بلدين. ورغم بيانات الدعم العالمية للقوات الأوكرانية، فإنه ليس هناك معادل لإعلان إنجلترا فرنسا الحرب على ألمانيا بعد يومين من غزوها لبولندا في 1 سبتمبر 1939. صحيح أن متطوعين أجانب تقاطروا على أوكرانيا من عدة دول غربية، لكن هذا التطور شبيه أكثر بالحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939) التي لم تكن جزءاً من الحرب العالمية الثانية. لكن كيف سيكون شكل حرب عالمية ثالثة في الواقع؟ الواقع أن النظر إلى الأصول التاريخية لـ«الحرب العالمية» كمفهوم يشير إلى أن حرباً عالمية ثالثة لن تحدث إلا عندما يتفق الناس بشكل ذاتي على أنها حدثت بالفعل. وطالما بقي النزاع مقتصراً على معاييره الحالية، فإن تسميته ستظل صراعاً تحرّكه التخوفات والتخيلات. وقد ظهر مفهوم «الحرب العالمية» حتى قبل الحرب العالمية الأولى.

فمنذ يوليو 1914 نشرت الصحف الأميركية كلاماً يحيل على المستقبل ويذهب إلى أنه «إذا لم تستجب صربيا للمهلة النمساوية، فإن أوروبا ستشهد حرباً عالمية». وبالتزامن مع ذلك، عبّر الألمان والفرنسيون عن خشيتهم من «حرب عالمية». وعقب الحرب، وصفها مراقبون لاحقاً بمجموعة من المصطلحات، منها على سبيل المثال لا الحصر «الحرب العالمية». وحفلت الصحف الأميركية بإشارات إلى «الحرب العالمية الأخيرة» وتوصيفات لـ«قدماء محاربي الحرب العالمية». لكن المعلقين الإنجليز والفرنسيين استخدموا مصطلح «الحرب الكبيرة» أكثر.

وفي روسيا ما بعد الحرب، استخدم لينين مصطلح «الحرب العالمية» أو «الحرب الرأسمالية». وباختصار، فإن كل الدول وصفت النزاع بمصطلحات تسمح لها بأن تضفي عليه أهمية ومعنى. وبالطبع، لم تظهر التسمية المألوفة، أي «الحرب العالمية الأولى»، إلا بعد أن كانت حرب جديدة تلوح في الأفق عام 1939. غير أنه هنا أيضاً سُك مصطلح «الحرب العالمية الثانية» قبل اندلاعها، حيث كان المعلّقون يخشون كثيراً «حرباً عالمية ثانية» في الثلاثينيات. بل إن هذه المخاوف تعود إلى عام 1918، عندما شدّد معلقون أميركيون يؤْثرون سلاماً قاسياً مع ألمانيا على الحاجة إلى منعها من الحصول على «القوة من أجل حرب عالمية ثانية».

وبالمقابل، ظهرت فكرة حرب عالمية ثالثة بشكل يحيل على المستقبل خلال الحرب العالمية الثانية. ففي عام 1944، أسست ثلة متميزة من الكتاب والصحافيين الأميركيين والأوروبيين، مثل ويليام شِرر وريكس ستاوت وإيميل لودويغ، «جمعيةَ تلافي الحرب العالمية الثالثة»، بهدف الضغط على الحكومة الأميركية لفرض اتفاق سلام قاس على ألمانيا عقب الحرب لمنعها من إطلاق حربها العالمية الثالثة في نصف قرن. مخاوف مماثلة عُبّر عنها بعد 1945. فخلال العديد من المراحل خلال الحرب الباردة، وخاصة خلال الحرب الكورية، وأزمة الصواريخ الكوبية، وحرب فيتنام، عبّر صحافيون عن مخاوف من أن يكون الكوكب قد بات على شفا حرب عالمية ثالثة.

وعندما غزا الاتحاد السوفييتي أفغانستان في عام 1980، على سبيل المثال، نشرت بعض الصحف عناوينَ من قبيل: «هذه قد تكون الحرب العالمية الثالثة»، و«هل بدأت الحرب العالمية الثالثة؟». في كل تلك الحالات، وعلى مدى العقود الماضية، كان الهدف من الإشارة إلى حرب عالمية ثالثة هو التحذير من الخطر الممكن لتصاعد النزاعات الإقليمية وتطورها إلى كارثة عالمية.

وبالطبع، لا شيء من تلك المخاوف تحقق. وحتى هذا اليوم، لا توجد «الحرب العالمية الثالثة» في أي كتاب تاريخي كحدث فعلي، لكنها تظل كابوساً محتملا. لكن المثير للاهتمام هو أن هذه الهوة بين الواقع والخيال قد تكون مترابطة سببياً. فمن جهة، قد تكون التحذيرات المتواصلة من حرب عالمية ثالثة نجحت في الحؤول دون وقوع مثل هذا النزاع على أرض الواقع. لكن من جهة أخرى، قد تكون هناك كلفة لتبني مثل هذا الموقف. ذلك أن التحذير المستمر من تهديد لم يتحقق أبداً يمكن أن يؤدي تدريجياً إلى تبلد أحاسيس الناس وتقليص انتباههم إلى واقعها الممكن.

كما أنها يمكن أن تشجع على عمل متهور. ففي حالة أوكرانيا، يظن الكثير من الناس الذين يدّعون أن الحرب العالمية الثالثة «بدأت» أنهم إذا فعلوا ذلك فإنهم سيستطيعون حشد الدعم الغربي لما يعتبرونها مواجهة لا مناص منها مع روسيا! لكن هذا الزعم، الذي تضخمه وسائل التواصل الاجتماعي، ينطوي على خطر تصعيد النزاع –ربما مع استخدام أسلحة نووية– وإنتاج الأشياء نفسها التي يأمل آخرون في تجنبها بالضبط. وفي نهاية المطاف، يمكن القول إن الحرب العالمية الثالثة ستدخل كتب التاريخ كحدث فعلي بأثر رجعي. ولكن علينا بالطبع أن نأمل ألا يحدث ذلك أبداً وأن ندعو الله من أجل أن يظل المفهوم في حكم المستقبل والمحتمل. لأنها إذا حدثت، فإن الدمار يمكن أن يكون عاماً وشاملا.

*أستاذ التاريخ بجامعة فيرفيلد الأميركية.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»