ما كنتُ أحسبُ أنَّ بيوتَ القصبِ، ولدنا فيها وتعلمنا، الطائفة على الماء ومنها المحيط بها مِن كلِّ الجهات، أنْ يخرج عالم جليل في شأنه، حيث ولد وسمع عن حضارة سادت ثم بادت، ولم يبقَ منها غير التّلال، ويجعلها مستقبله الدَّراسيّ، ويترجل وهو في عزّ عطائه، إنّه الآثاري عبدالأمير مايح الحمدانيّ (1967-2022). يشعر الأجنبيّ، مِن شسع غابات البردي والقصب، بالرَّهبة لغرابة المكان، ففي أيام عزّها كانت تمثل تيه غابات الأمازون، وسمعنا الزُّوار الأجانب يقولونها، فمِن قَبل عندما انتهى القائد عتبة بن غزوان (ت: 17هج) مِن السَّيطرة على البَصْرة، و«انتهى البرُّ وراء منابت القصبِ، قال: ليست هذه مِن منازل العرب» (ابن الخَياط، تاريخ خليفة). إذ كان عصياً استبدال الخيول بالقوارب. جاء الحَمداني مِن ذلك المكان القديم، إذا لم يكن قديماً بما أكدته الألواح المكتوبة والمرسومة، فهو محسوبٌ على «الجَاهليَّة»، المصطلح الذي محاه عالمٌ عراقي آخر في عشرة مجلدات (جواد عليّ، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام)، صرف فيها أربعين عاماً.

تخرج الحَمداني مختصاً بالآثار مِن جامعة بغداد (1987)، إلى جامعة ستوني روك بنيويورك، وقدم فيها رسالتين «العلاقات الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة والمكانيَّة بين القرى والمدن في بلاد سومر»، و«دول الظِّل آثار السُّلالات الحاكمة في أهوار جنوبي بلاد الرَّافدين»، ليحل بعدها مدرساً بجامعة «درم» البريطانيَّة. عُين (2001) منقباً للآثار، ثم مديراً لآثار النَّاصريَّة، حيث سومر وأكد، فعمل على صيانة مواقع الآثار بتشكيل حماية لها، موثقاً لـ1200 موقعاً، جاهداً تعويض خسارة كبارٍ في هذا المجال، بينهم طه باقر (ت: 1984). كانت الاتصالات بيننا جارية، لِما طمح بإنجازه «مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات»، كتاب عن مشتركات سومر والجزيرة، وكان الحمدانيّ بالنسبة لي هو الأصل، لأن المصدر والمعلومة والحياديَّة مقدسات لديه، لكنَّ مرضه، وصوته الضَّعيف الذي يصلني متقطعاً، جعلني أتردد وأقلق مِن ضمان النَّجاح.

توافق الثُّلاثي في شخص الحَمدانيّ: الوَطنيَّة والنَّزاهة والعِلميَّة، فالعالم والمثقف الأصيل لا يكون إلا وطنياً ونزيهاً، وغياب واحدة يُلغي الثّلاثي. قد لا تصدقون، أنَّه في زمن الفساد المفجع، الذي مارسه فرسان أحزاب الخراب، الـ«مستأجرين يُخربون ديارهم/ ويُكافأون على الخرابِ رواتبا» (الجَواهريّ، 1949)، كان الحمدانيّ عندما يُسافر بمهمة يُقيم عند صديق، ليس لديه فراش يَلِيق بالوزير، ممتنعاً عن صَرف إيفادٍ، وهذا ما جعل موظفيه يتضايقون مِن بخله بمال الدَّولة، كانت نزاهة ساسون حسقيل (ت: 1932) مَثَّلَه، وسط لُصوص المال العام وناهبيه، فهو خلاف الدِّينيَّين السِّياسيين لا يؤمن بمبدأ «مجهول المالك».

لم يترك الحَمدانيّ بعد رحيله داراً، وقد مات في بيت صديقٍ بالنَّاصريَّة، بعد اليأس مِن علاجه. أتعلمون أنَّ النَّزاهة، بعراق اليوم، نادرةً كـ«الكبريت الأحمر»، كيف وقد اقترنت بالوطنيَّة، فليس لديه ما يقدمه لأولياء مِن خارج الحدود، وليس لديه ما يخشاه كيّ يطلب الشَّعبيّة الزَّائفة، مزيناً عنقه بقماش أخضر، أو يقف على قدور الطَّعام نفاقاً في المناسبات! أمامي «ألواح رافدينيَّة»، يتصدره الإهداء لوالده: «صاحب بيت القصب الذي تفتحت فيه عيناي على حكايات الماء والقصب والطّين». ما كنتُ أحسب، في الزَّمن الذي فيه «اللُّصوص يمشون بثياب التُّجار في النَّهار» (ابن الجوزي، المنتظم)، والقتلة يخشاهم القضاء، أن يخرج مِن منابت القصب، كلّ هذا الأمل ويغيب بعجالة. أقول: هل إنَّ للفاسدين، ممَن يرفعون الدِّين سياسةً، عيوناً تنثني مِن سيرة الحمدانيّ؟!

* كاتب عراقي