خلال الحملة الانتخابية بدت فرنسا كأنها في حرب أهلية سياسية، وها هي تبدو، بعد انتخاب إيمانويل ماكرون لولاية رئاسية ثانية، في مخاض تغييري عميق. كثير من سياسيي اليمين واليسار بلغوا في مراحل سابقة اقتناعاً بأن فرنسا لا تُحكَم إلا من الوسط، لكن تجربةَ الوسطيّة التي مُنحت فرصةً تاريخيةً مع وصول ماكرون للرئاسة عام 2017، محيّداً الأحزاب التقليدية، لم تستطع ضمان استقرار سياسي واجتماعي. وقبله كان الرئيس الاشتراكي الوسطي فرانسوا ميتران قد اضطرّ لـ«التعايش» مع رئيس وزراء ديغولي يميني بعدما هُزم حزبُه في الانتخابات البرلمانية، وللسبب نفسه مرّ الرئيس الديغولي الوسطي جاك شيراك بعده بالتجربة نفسها.

انعكست تجربتا الوسطية والتعايش على مرحلتي الرئيسين نيكولا ساركوزي (اليميني) وفرانسوا أولاند (الاشتراكي) اللذين بادرا إلى تلوين حكوماتهما بوزراء من خارج حزبيهما. ساهم ذلك في إضعاف الحزبين الرئيسيين وتشظّيهما، ما أفسح المجال لبروز ماكرون (اليميني الوسطي) ثم صعوده باعتباره صاحبَ تيار عابر للديغوليين والاشتراكيين معاً، وأشاع انتخابُه للولاية الأولى انطباعاً بأنه مؤهّل لبلورة حزب جديد جامع تنصهر فيه الأفكار والانتماءات في جسم سياسي وطني قوي.

لكن النتيجة الواقعية خالفت هذه الصورة، فالخريطة السياسية التي أسفرت عنها الانتخابات الأخيرة تُظهِر ضموراً لليمين واليسار الوسطيين اللذين حكما فرنسا طوال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، مقابل صعود اليمين المتطرّف («التجمّع الوطني»/ مارين لوبن) المرتبط في أذهان الفرنسيين بالفاشية، واليسار المتطرف («فرنسا الأبية»/ جون لوك ميلانشون) المرتبط بالفوضى والشيوعية البائدة. هذه الخريطة مرشّحة للترسخ عبر الانتخابات البرلمانية في يونيو المقبل، إذ كانت إعادة انتخاب ماكرون خياراً أقدمت عليه شرائح عدّة «على مضض»، أو فقط لقطع الطريق على اليمين المتطرف، لكنها لم تعد مقتنعةً بـ«الوسطية» الماكرونية التي تعتبرها «ممثلةً للأغنياء والشركات الكبرى»، وفقاً لما ذهبت إليه حركة «السترات الصفراء» الاحتجاجية التي انطلقت من رفض أسعار الوقود ثم أصبحت حركةً ضد ماكرون وما يمثّله.

وإذا لم يتمكّن حزب ماكرون («الجمهورية إلى الأمام») من تحصيل الغالبية، فسيكون مضطراً لـ«التعايش» مع أيٍّ من التيارين المتطرّفين، والأرجح مع اليسار الذي ساهم في انتخابه. لكنه لن يتمكّن من إعادة ترميم اليمين الوسطي، ما يعني تلقائياً تعزيز اليمين المتطرّف.

لذلك فإن متاعب فرنسا لم تنته. خلال المناظرة التلفزيونية حذّر ماكرون منافستَه لوبن من أن خلطها «الشعبوي» بين المشاكل الدخلية (الأمن والهجرة والإسلام السياسي والصعوبات الاقتصادية)، يناقض الدستور وقد يؤدّي إلى «حرب أهلية». أما رؤاها الخارجية فتفضي عملياً إلى «فريكست» بعد «بريكست» التي أخرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بما ينطوي عليه من تراجع اقتصادي. والأهم أن ممثلةَ اليمين المتطرف تتطلّع أيضاً، كما زعيم اليسار المتطرّف، إلى تهميش فرنسا من الناتو لمصلحة التقارب مع روسيا.

ربما يلتقي ماكرون معهما، سلبياً، فهو دافع عن إنشاء قوة دفاعية أوروبية بديلة لـ«الناتو»، لكنه لم يلق استجابةً من الشركاء الأوروبيين المفترضين. *كاتب ومحلل سياسي -لندن