لعل من نافلة القول الحديث عن انتشار مرض الاكتئاب، اليوم، بين البشر، لدرجة تجعله أحد أكثر الأمراض انتشاراً بين الناس.
وحيث التفَتَّ في أي اتجاه، سيقع بصرك على مجاميع من الناس، من المصابين بمرض العصر الحديث الأشهر: الاكتئاب! 
ومن الطرائف أن مكتئباً خفيف الظل، سُئِلَ: كيف أُصبت بالكآبة؟ فوضع رجله على الأُخرى، وتنهد، ثم أجاب بثقة، وكثير من السخرية السوداء، قائلاً: «شخصياً، أنا ضد الكآبة، بل يمكنك بلا حرج أَن تقول إني شديد العداء لها... ولكن ما عساي أفعل؟! وجدت ثُلّةً من المكتئبين بحاجة إلى متبرعين، فلم يخطر ببالي أن أكسُرُ لهم نَفسَاً، أو أَرُدَّ لَهُم طَلَبَاً»! 
ولا يُلامُ صاحبنا في سخريته اللاذعة، فالاكتئاب، ليس قطعة حلوى تشتهيها نفسك، فتتناولها تبعاً لشهوتك!
تُعَرِّفُ المواقع الطبية الاكتئاب، بأنه: أحد الأمراض النفسية الشائعة، يصاب صاحبه باضطراب مزاجي حاد أو مزمن، يؤدي إلى شعور الفرد المستمر بالحزن، وفقدان الشعور بالسعادة، ما يؤدي غالباً إلى عجز المُكتَئِب عن الإحساس بالحياة الطبيعية، أو إدراك أي متعة حياتية. أما في اللغة، ففي (لسان العرب): «الكآبة: سُوءُ الحَالِ، والانكسار مِن الحُزنِ(...) واكتأَبَ اكتِئَابَاً: حَزُنَ وَاَغتَمَّ وَانكَسَرَ، فَهُوَ كَئِبٌ وَكَئِيْبٌ (...) الكآبة: تَغَيُّر النَفسَ بِالانْكِسَارِ، مِن شَدَّةِ الهَّمِّ والحُزَنِ، وَهو كَئِيبٌ وَمُكتَئِبٌ».
الاكتئاب، ومشتقاته، كالكآبة، والمكتئب، ونحوها، وردت في التراث العربي، منذ أكثر من ألف سنة، فجزء من دعاء السفر، في صحيح مسلم:«... أَعُوذُ بكَ مِن وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ المَنْظَرِ». 
في (الفروق اللغوية) للعسكري: «الفرق بين الكآبة والحزن: أن الكآبة أَثرُ الحزن البادي على الوجه، ومن ثم يُقال: عليه كآبة، ولا يُقال: علاهُ حُزن، أو كَرْب، لأن الحزن لا يُرى، ولكن دلالته على الوجه، وتلك الدلالاتُ تُسَمَّى كآبة، والشاهدُ، قول النابغة:
إِذا حَلَّ بالأَرضِ البَرِيَةَ أصبَحَت كئيبةَ وجهٍ غِبُها غير طائل
فجَعَل الكآَبَةَ في الوجه». والنابغة هو الذبياني، الشاعر الجاهلي الشهير.
وكما إن التقادم في العمر يسبب الاكتئاب، ومثله فقدان استطعام الأشياء كما كانت سابقاً، يقول الربيع بن ضبع، الشاعر الجاهلي المُعَمِّر:
إذا عاشَ الفتى مئتين عاماً  فقَد ذَهَبَ المَسَرَّةُ والفتاءُ
ولذي الرُّمة (ت 116هـ):
وفي الحَيِّ مما تتقي ذاتَ عينِهِ فريقان: مُرتَابٌ غَيُورٌ وَنَافِسُ
ومُستَبشِرٌ تبدو بشاشةَ وَجهِهِ إلينا، وَمَعرُوفُ الكآبَةِ عابِسُ
ويكتئب هدبة بن الخشرم (ت 50 هــ)، لكآبة صاحبه:
يؤَرِّقُني اكتِئابُ أَبي نُمَيرٍ   فَقَلبي مِن كآبَتِهِ كَئيبُ
ويرى صالح بن عبدالقدوس (ت 160 هـــ)، عدم الرضا باعثاً للاكتئاب:
إنَّ الغَنِيَّ الذي يَرضَى بِعِيشَتِهِ لا مَن يَظلُّ على ما فاتَ مُكتئباً
وعند أبي حيان التوحيدي في (الإمتاع والمؤانسة): «قيل: فما الكآبة؟ قال: إفراط الحُزْن».
وللبحتري، في الوقوف على الأطلال:
عرَّجوا، فالدّموعُ، إنْ أبكِ في الرُّبْ عِ، دُموعي، وَالاكتئابُ اكتئابي 
يقول المتنبي:
فَرُبَّ كَئيبٍ لَيسَ تَنْدَى جُفُونُهُ وَرُبّ نَدِيِّ الجَفْنِ غَيرُ كَئيبِ
مَرَّ أَبُو العَبَّاسِ الضّبِيُّ، عَلَى بَابِ الوزير البويهي، الصَاحب بن عبَّاد (ت 385 هـ)، بَعدَ موته، فوجده خاوياً، زال عنه الخدم والحشم والزوار والأضياف، فقالَ: 
أَيّها البَابُ لِمَ عَلاكَ اكتئابُ أَين ذَاكَ الحجَابُ والحُجَّابُ؟!
وضمن هجائية له، ينشد ابن الرومي:
إذ لا أبالي فيهمُ حسكَ العدو ولا ضِبابَهْ 
من كان مكتئباً لذا ك فقد توخيتُ اكتئابهْ
ولأن المُكتئب ينفر من الناس، قال الأُحيمر السعدي (ت 170هـ):
عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى وَصَوَّتَ إنسانٌ فكِدتُ أَطيرُ
وكمن يَصِف حالة الاكتئاب ثنائي القطب، يقول الشاعر العباسي، أبو سعيد الخوارزمي:
مودته إِذا دَامَت لخل... فَمن وَقت الصَّباح إِلَى المسَاءِ
أما عبدالجبار بن حمديس الصقلي (ت 527 هـ)، فلهُ:
كم غريبٍ حنّتْ إليه غريبَهْ وكئيبٍ شجاهُ شَجْوُ كئيبَهْ 
ويحسن الوقوف، عند عبارة مهمة، لأحد أساتذة التحليل النفسي، سيغموند فرويد(1856- 1939)، حيث قال: «الاكتئاب، ليس علامة ضعف، بل هو إشارة إلى مُحاولتك أن تكون قوياً لفترة طويلة جداً». في حين جزم بعض فلاسفة اليونان، وبخاصة، أرسطو، وتلاميذه، بوجود علاقة عضوية بين الاكتئاب والإبداع. وأكَّدَ أرسطو أن الكآبة سمة المبدعين، من الفنَّانين، والكُتَّاب، متسائلاً بإلحاح، عن سبب إصابة معظم المبدعين والنابغين في مجالات الفلسفة والسياسة والفن والشِعر بالكآبة.
لم يجد الشعراء العرب، أزمة في وصف الاكتئاب، ولا في التعبير عن الكآبة، وكأنهم تبعوا بذلك أرسطو، أو ربما آمنوا بفكرته، ولو لم يعلموا تبنيه لها.
المحللون النفسيون، يعزون الارتباط بين الإبداع والاكتئاب، إلى الثمن الباهض الذي يدفعه المبدعون إثر جهدهم المتفاني، وانشغالهم بمشاريعهم الإبداعية التي خَلّدها التاريخ، حتى لا يصبح في أوقاتهم شيئ لغيرها، ما يؤدي لإصابتهم بأنواع متعددة من الاكتئاب، بعد إتمام أعمالهم.
إن من العبارات الصادمة، في خطر الاكتئاب، قول ديفيد بيرنز، الطبيب النفسي الأميركي (ولد 1942): «يمكن أن يبدو الاكتئاب أسوأ من السرطان المميت، لأن معظم مرضى السرطان يشعرون بالحب ولديهم الأمل واحترام الذات»! فهل يحصل المكتئب على شيء من ذلك؟!


*السفير السعودي لدى الإمارات