مع كل انتخاباتٍ فرنسية يستعد المتابعون لسماع مقولاتٍ جديدة، ولاختبار أفكارٍ قديمة، وللتمهل أمام هواجس غير مسبوقة. المناظرات التي جمعت ماكرون بلوبان بغض النظر عن جوانبها الداخلية المغرقة في محليتها، يهمنا الجانب الثقافي والسياسي الذي حوته. ماكرون بجذوره اليسارية على الأقل في البدايات، واهتماماته بالروايات الخيالية، ودراسته المحدودة للفلسفة متأثراً بالفيلسوف بول ريكور بدا أكثر «تثويراً» في حديثه، ولوبان المعروفة باتجاهها اليميني شديد المحافظة على «الأمان الثقافي» الفرنسي، لديها مشروع واضح وصارم تجاه الهجرات وشعارات الديانات.

حين حدثت لوبان عن مفهومها للعلمانية وعلاقته بطريقة تحييد الشعارات الدينية في المجال العام رد عليها ماكرون بجملة ذات شقين، أولهما: له جانب الاجتماعي، إذ حذّر من حربٍ أهلية قد تجرها بعض التطبيقات شديدة الحدة للعلمانية، وردّت عليه بأنك تحتقر الفرنسيين وتعتبرهم لا يطبقون القانون وإنما يحملون السلاح لمعارضته.

ثانيهما: أعادها إلى «إرث التنوير» الذي كان لفرنسا دورها الريادي فيها، تذكير ماكرون لإرث التنوير فيه مكر سياسي، فالتنوير بات جزءاً من التاريخ والماضي، وما يسود اليوم من تسامحٍ أو تعايش إنما هو ثمرة قوانين وتشريعات استفادت من ذلك الإرث ومن تلك التجربة، لكن ماكرون أراد إحياء نزعة الأنوار لدى الفرنسيين التي تطربهم في كثيرٍ من الأحايين وتشعرهم بالريادة والسيادة.

والدرس الذي تطرحه سجالات الانتخابات الفرنسية، أن ثمة تأويلات وقراءات على مفهوم «العلمانية» وما من علمانية واحدة سائدة، بل يمكن للعلمانية حتى أن تطبّق بواقعٍ غير ديمقراطي، وهذا ينقض بعض التأسيس الفلسفي الذي وضعه أساتذتنا في هذا المجال حين رسموا تلازم مسارٍ بين العلمنة والديموقراطية.

من منا لا يعرف تشارلز تايلر، الفيلسوف الكندي، ومؤلف كتاب «عصر علماني»، يكتب نوفل الحاج لطيف، وهو مترجم الكتاب للعربية أن:«اعتُبر كتاب عصر علماني المورد الوحيد الأكثر أهمية لمحاولة تطوير فهم أفضل لمعنى العلمانية.

فصاحب هذا الكتاب الضخم والكثيف والثري والمعقّد أحياناً أراد أن يتحرّى بشكل جدّي أوضاع عقائد الإيمان في العالم الغربي، حيث استطاعت النزعة الإنسانية الحصرية أن تفرض نفسها كخيار مُتاح لعدد لا يُستهان به من البشر، يتخطى حدود النخب ليشمل عامة الناس»، العلمانية لدى تايلر:«ليست مجرّد تراجع في الإيمان الديني أو الممارسة الدينية، وإنما هي أيضاً تغيير في أوضاع الإيمان ذاتها. فلقد واكب ظهور العلمانية تغيّرات أخرى كثيرة ينبغي تثمينها، مثل فكرة أعمق عن الذات والفاعلية الذاتية ونظام اجتماعي أكثر مساواة. ورغم أن الإيمان قد يكون إشكالياً بطرق جديدة، فقد يكون أيضاً ذا معنى بطرق جديدة».

لكن ما علاقة نظرية تايلر في العلمنة بالدولة والانتخابات الفرنسية؟! وجدتُ كتاب:«مسائل التعدد والاختلاف في الأنظمة الليبرالية الغربية: مدخل إلى دراسة أعمال تشارلز تايلر» لسايد مطر قد تطرّق لذلك، وألخص قوله في التالي:«يستخلص تشارلز تايلر من هذا كله أن المجتمعات الحالية أضحت مجتمعات متعددة الثقافة والهوية، على الدولة الديمقراطية ألا تقف موقف الحياد في علاقتها بهذه الجماعات التي تُشكّل بنيتها، خلافاً لِما يُشاع ويقال، في الواقع الفرنسي مثلاً، بحجة عدم التدخّل في خصوصية كل جماعة، خصوصاً الدينية منها، لأن من مصلحة الدولة أن تفهم ما يجول في عقلية كل جماعة، كي لا يكون هناك جماعات تفرض أنظومتها الفكرية والدينية على الآخرين بطريقة ماكرة أو تعسفية.

ويشجّع تشارلز تايلر الجماعات التاريخية في كندا وغيرها من البلدان على الانفتاح والتحاور، بدلاً من الانطواء على الذات، لأن في ذلك خير المجتمع واستقراره على المدى الطويل. كما يشجّع الآتين إليها على الانخراط في فلسفة الدولة الحديثة، لكونها الضمانة الوحيدة للسلم الأهلي. هذا يعني أنه لا توجد ثقافة أرقى من ثقافة، ولو أن هناك تفاوتاً في تأثير هذه الثقافة أو تلك في المشهد الاجتماعي.

فالانفتاح على الثقافات الأخرى يخفّف حدة المحورية العرقية والدينية واللغوية ويعزّز فكرة الانفتاح والتسامح والإنسية (Humanisme)». المعنى الأساسي، أن العلمانية تفرز القيم وتحدد مواقعها، لكنها لا تنتجها، فالعلمنة موضوع تبويب للمجال العام أكثر منها مفرخة قيمٍ، وعليه فإن كل تأويلٍ للعلمانية يمكنه أن يصعّد معه طرق أخرى في إدارة شؤون الدولة كما تروج لوبان، أو أن يجيّر مشروع الدولة لصالح إعادة الوحدة الأوروبية كما هو حلم ماكرون، من الواضح أن تحوّلات كبرى شهدها العالم جعلت الكثير من العبارات والجمل ذات التأثير الصارخ قديماً أقلّ نفوذاً إلى الأسماع.

* كاتب سعودي