لم تكن وعود ماكرون في انتخابات 2017 هي من أوصلته إلى سدة الرئاسة، بل قلق الناخب الفرنسي من انزلاق فرنسا سياسياً باتجاه اليمين القومي نتيجة فشل الأحزاب التقليدية في الاستقطاب والاستحواذ على ثقة الناخب الفرنسي، والفضائح التي صاحبت عُهدة الرئيس نيكولاس ساركوزي عززت تلك القناعة. إلا أن الخارطة الانتخابية في الجولة الحاسمة من الانتخابات الرئاسية، المقررة في 24 من أبريل الجاري ستبقى ضمن إطار (ثقل كتلة ميلينشون الانتخابية/ الهجرة/ فرنسا والأزمة الأوكرانية فرنسياً وأوروبياً/ الدولة والهويات الدينية/ الإسلامفوبيا بحسب التعريف الفرنسي سوسيولوجياً في هذه المرحلة).

التعريف السياسي بهوية الدولة عبر برامج المرشحين الرئيسيين هو المحور الرئيس في هذه الجولة النهائية رغم تقدم الرئيس ماكرون بحسب آخر استطلاعات الرأي الأخيرة، وخصوصاً بعد المناظرة الأخيرة بينه ومرشحة التيار القومي اليميني لوبان، حيث حاز ماكرون على 55% من نسبة المُستطلعين.

إلا أن اليسار قد يسجل حضوره المباشر في هذه الانتخابات حتى وإنْ خرج مرشحه جان لوك ميلينشون، فإن التوجه داخل حلقة صنع القرار هو البقاء على الحياد بين ماكرون ولوبان أملاً في الفوز بمنصب رئاسة الحكومة المقبلة (أي صانع الملوك Kings Maker) في التوازن بين المعسكرين (وذلك بحسب مصدر خاص داخل دائرة صنع القرار في معسكر ميلينشون). سياسياً، المشهد الألماني هو الأكثر اتزاناً أوروبياً حتى مع وجود حزب «الخضر» ضمن الائتلاف الحاكم، والمؤشر على التحول في واقعيته السياسية هو مساندته قرار المستشار «شولتز» في تخلي ألمانيا عن حيادها الأمني أوروبياً، في حين تبقى عموم أوروبا غارقة في تقليدية مشهدها السياسي بخلاف فرنسا ماكرون، وانحسار حضور الأحزاب التقليدية وطنياً.

فالأزمة الأوكرانية القائمة ستبقى الملف المعياري لأي حكومة أوروبية قائمة أو قادمة، وكون فرنسا القوة النووية الوحيدة داخل الاتحاد الأوروبي، فإن الثقل الألماني الفرنسي أوروبياً سيصبح أكثر تنامياً وحضوراً في المشهد الأوروبي سياسياً.

وسيعبر فوز ماكرون بولاية ثانية، عن تأكيد تسيد يمين الوسط Centrist للمشهد السياسي ليس أوروبيا فقط وإنما في عموم العالم الليبرالي (الحر). وحتى بريطانيا المرتبكة «سياسياً» في بحثها عن تعريف لهويتها الجغرافية، قد وجدت ضالتها الأوروبية عبر الأزمة الأوكرانية، إلا أن إعادة التعريف بهويتها الجيوسياسية سيبقى التحدي الأكبر لعموم قواها السياسية، وكذلك تحديدها «منهج» سياسة خارجية ذا استقلالية أكبر نسبياً خارج السياقات الأميركية.

أحد أكبر الملفات الأوروبية المشتركة هو تعرفيها «للاسلامفوبيا» من المنظور السوسيولوجي أوروبياً، إلا أن فرنسا ماكرون كانت الأكثر جسارة في الفصل بين مستلزمات الهوية الوطنية والأخرى الروحية سياسياً، وكذلك محاكاة ألمانيا لذلك، ولكن بأدوات سياسية بدت أقل تصادمية. فوز ماكرون سيؤكد أن مدنية أوروبا قد تشيخ، إلا أنها لا تضمر قيمياً وسياسياً، وإن أوروبا باتت أقرب للتصالح مع تاريخها الخاص.

* كاتب بحريني