تتبنى قيادات الدول العظمى مفاهيم فكرية أصبحت جزءاً من عقيدة تلك الدول، وتدرّس في جامعاتها وكلياتها العسكرية والأمنية على وجه الخصوص، وتتحول إلى جزء من العقيدة العسكرية لتلك الدول، ولهذا يلعب المنظّرون والمفكرون دوراً محورياً في استراتيجيات دولهم الكبرى، ويسترشدون بآرائهم لإيجاد حلول للتحديات والمشاكل قبل أن تحدث، بل ويساهم فكرهم في حل جذور بعض التحديات العالقة التي تتطلب فكراً ونظرةً غير اعتيادية سواء في العلاقات الدولية، أو السياسة أو الاقتصاد، أو الهوية الوطنية والثقافية، والمعضلات الاجتماعية والأمنية والعسكرية، كما وأن لهم دوراً إيجابياً في تحقيق التفوق النوعي لحكوماتهم ضد المنافسين، وليس بالضرورة أن تعود أفكارهم وأطروحاتهم بالنفع على البشرية، أو أن تكون تطلعاتهم إنسانية، وهم القوة الكامنة لأوطانهم حتى بعد وفاتهم بمئات أو آلاف السنين، وهم ذاتهم أصحاب الأطروحات وما يتبعها من مدارس فكرية توجّه سياسات الدول، وهو ما يؤكد أن الفكر الإستراتيجي، يعدّ أهم مصدر من مصادر قوة الدول وأقوى سلاح عرفه الإنسان على مر التاريخ.
ومن المؤكد بأنه لا يوجد صراع في العالم - سواء عسكري أو غير عسكري - لا تقف خلفه فكرة مسيطرة كانت الشرارة التي انطلقت منها باقي الأفكار، وتحولت إلى نظم وهياكل وعقائد راسخة، كما يجب أن نعلم بأنه لا توجد أمة عظيمة دون نخبة فكرية عظيمة سخّرت أفكارها ونظرياتها لجعل دولها متقدمة بخطوات دائماً عن الآخرين، ولإيقاع التأثير اللازم غالباً ما يتم تلقيح تلك الأفكار وعصرنتها أو مواءمتها مع الواقع المعاش، أو مع ما هو قادم من توجهات وتحديات وظروف مستقبلية. 

وعلى سبيل المثال، ما يحدث الآن في أوكرانيا بين روسيا وأوكرانيا هو أكبر مثال على هيمنة العقائد الفكرية على العقائد العسكرية والتي بنيت عليها في الأساس، وذلك كالنظرية الأوراسية في روسيا كنتاج لأعمال مفكرين روس في القرنين الماضيين من أمثال: «سافيتسكي» و«تروبتسكوي» و«ألكسييف» و«كراسافين».
ولكي تفهم لماذا تدخلت روسيا في أوكرانيا لا بد من قراءة كتب المفكر «ألكسندر دوغين»، فيلسوف العقيدة الأوراسية الأول وملهم الرئيس «بوتين» الدائم، وأهمية قيام التكتل الاقتصادي والسياسي الأوراسي كإستجابة للتحديات الراهنة، وامتداداً للمسار التاريخي واللغة الروسية التي كانت الوسيلة الأهم، والتي من خلالها تعايشت مختلف القوميات والأثنيات، ولك أن تعرف أن عظماء الثقافة الروسية كانوا من مناطق جغرافية مختلفة على غرار «ستالين» الجورجي و«خروشوف» الأوكراني.
فالأيديولوجية الأوراسية بالنسبة لروسيا هي من الثوابت القومية التي لا تتحول عنها روسيا، لكي لا تجد نفسها خارج مصاف الدول العظمى، وتلك العقيدة الإستراتيجية الأوراسية التي تندرج تحت علم الجيوبوليتيك بنسخته الروسية على أساس مفهوم المدى والمجال الجيوسياسي، والذي يحدد كيف وأين ومع من وضد من يجب أن تتحرك روسيا في العالم، وكيف تختار التكتلات. 

هذه الاستراتيجية تحدد ما هي التكتلات التي يجب أن تمنع تكونها وعرقلتها أو منع تهيئة الظروف المناسبة لها، مقابل النموذج الصيني والهندي وهما ضمن نماذج بُنيت على فلسفات وأيديولوجيات تلك الثقافات، والنموذج الأطلسي الذي تحركه أفكار المنظّرين الأميركان والرامية للهيمنة على المناطق الاستراتيجية نفسها، ومصادر العالم وثرواتها بالربط بين البحر والبر والسيطرة على الجو، وإدخال الفضاء والفضاء السيبراني والجيومغناطيسي في الحسبة الجديدة، والذي تطلّب من روسيا إعادة ترميم وتوطيد علاقاتها المتشعبة مع الجمهوريات السوفييتية السابقة، وإيجاد مثلث تأثير في العمق الأوروبي، ومنع شرق أوروبا من أن تصبح دوله مستعمرات للقوى العظمى الأخرى، وتمتد النظرة والتحركات للقارة الآسيوية والشرق الأوسط وأفريقيا، وحلفاء في أميركا الجنوبية مع حليفها الأكبرالصين على الرغم من التناقضات وتضارب المصالح، إلّا لأن لديهم عدو مشترك.
وفي الجانب الآخر يعمل الحلف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية على محاصرة روسيا والصين والعكس صحيح لعرقلة مشاريعهم العابرة للقارات وقطع الطريق عليهم، وتوريطهم في صراعات عسكرية واقتصادية وكوراث مصطنعة، من خلال تنويع الضغوط والأزمات بين داخلية وخارجية.


كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات