في لبنان، تلك الجغرافيا الصغيرة والمؤثرة والمركزية، تتحول الحكاية إلى مسرح لصراع الثنائية الإغريقية القديمة: إسبرطة وأثينا. إسبرطة التي يمثل فكرتها «حزب الله»، وأمير «عسكرتاريا المقاومة» ورغبته «المستوردة» من مركز تصدير الثورة الإسلامية طهران، بتحويل لبنان كله إلى دولة عسكرية تتبعه بلا تردد ولا تفكير وبصرامة عسكرية لا هوامش جدل فيها.(فكرة إسبرطة أيضا كانت تستوطن القوات اللبنانية والمردة وفي فترة ما الكتائب كذلك).

وأثينا، ولا نعني تلك الديمقراطية المباشرة الموهومة، بل تلك التي يحكمها نخبة «المتحذلقين» وقد انشغلوا بتجميع ثرواتهم كطبقة أرستقراطية حاكمة، ولا يغذي سلطتهم إلا الجدل السفسطائي مرمياً بين الأتباع من الناس لينشغلوا به محتارين دوماً في تحديد جنس الملائكة!! بين الأثينيين والاسبرطيين في لبنان، هنالك باقي المدن اللبنانية بلبنانييها جميعاً (إغريق الشرق مجازاً بكل تراجيدياتهم) ينتفضون غضباً على كل تلك الآلهة السياسية التي تتحكم فيهم وبقوت أيامهم وتفاصيل عيشهم، لم يعد جنس الملائكة جدلاً مطروحاً عند اللبنانيين، صارت لقمة الخبز والعيش هي الفاصل بين أن يكونوا أو لا يكونوا. حاكم الضاحية الجنوبية الحالم بمجتمع اسبرطة في لبنان، لم يتحمل أن يكون هو نفسه في تعداد صرخة اللبنانيين «كلن يعني كلن» فيخرج دوماً في خطاباته مهدداً بلا مواربة، يحاول لملمة مشروعه الإسبارطي في مواجهة غير منطقية أمام خصومه «الأثينيين» المطالبين بلا كلل باستئناف حكم النخبة، والنخبة دوماً هم أنفسهم وإعادة إنتاج بالتوريث والتسلسل الجيني لا أكثر.

اللبنانيون في عام 2019 خرجوا إلى الشارع (لا حيلة لهم إلا الشارع)، وأسقطوا إلى الأبد في وجدانهم.. تلك الثنائية الإغريقية القديمة، يريدون استعادة دولتهم، دولة مدنية بلا أحزاب وزعامات الجينات الموروثة، ولا طائفية المقدس المهتريء. اللبنانيون يعرفون الآلهة جيداً، مرت عليهم في التاريخ المنقوش والبعيد آلهة كثر، لذا فكل لبناني يعرف طريق الآلهة جيداً، على اختلافها فهم يتقنون التعامل مع الآلهة بطرق إيمان متعددة ومتباينة.

ولأنهم كذلك، فاللبنانيون يميزون بين الصنم والإله، فاض بهم الكيل فحملوا فؤوسهم ليكسروا الأصنام. اللبنانيون - العاديون جداً- في واقعهم البائس جداً اليوم لم يقوموا بثورة أيديولوجية، ولا عقائدية ولا قومية، ثورتهم وطنية بمعنى محلية جداً، غضبهم معلق على أمنيات لبنانية خالصة بعيش كريم، لا مرتهنة بمواقف سياسية إقليمية ولا يرغبون بحروب جديدة، لا أهلية ولا إقليمية.

اللبنانيون يبحثون عن دولتهم..في وطنهم. حسن نصر الله، اللبناني المنقلب على لبنانيته كلها، تناسى ذلك. سيد الضاحية مرعوب أن يكسر اللبنانيون صنمه. رئيس الجمهورية ميشال عون، يحاول أن يلملم المشهد المتشظي بخطابات لا جديد فيها، يناديه مريدوه تحبباً بالجنرال، لكن المفارقة أن «الجنرال» وحيدٌ جداً، ليس لديه من يكاتبه.

وللتوضيح، أنا أحب لبنان، وأحب اللبنانيين..على اختلافهم وتنوعهم. أحد أحلامي الشخصية أن أمضي بقية عمري بعد التقاعد في لبنان..هذا «القطعة من السما» وهو يبحث الآن عن مكانه في الأرض من جديد. ومما أذكره من قراءات قديمة أحتفط بها أن السيدة فيروز كتبت ذات وجع شخصي مرة: «عيلتنا مثل التراجيدا الإغريقية..». عبارتها المحزنة، هل كانت تعني «العيلة اللبنانية»؟

* كاتب أردني مقيم في بلجيكا.