في قلب المحن، ومهما اشتدت، تلوحُ فرص قد تُستغل، وقد تُضَّيع. وفي حرب أوكرانيا فرصة لطرفيها المباشرين لفتح صفحةٍ جديدة، ووضع قواعد مستدامة للعلاقة بينهما، على أساس حلٍ وسطٍ بين مواقف كل منهما. تنازلُ روسيا عن بعض شروطها، مع إعلان استعدادها للمشاركة في عملٍ دوليٍ لإعادة بناء ما دمرته الحرب، وقبول أوكرانيا التحولَ إلى دولة محايدةٍ وفق إحدى صيغ الحياد المعروفة دولياً، يخلقُ فرصةً تاريخيةً لطي صفحة الحرب والدمار، وفتح صفحة السلام والبناء.
ليس هذا سهلاً، بعد أن أُريقت دماء، ودُمر ما بقي من ثقةٍ مع كل ما جرفته الحربُ في طريقها. ولكن التاريخَ يُعَلِّمنا أن أهم التحولات في حياة البشر تحدثُ عندما يتحدون الصعب، ويمتلكون إرادةَ تحقيق ما قد يبدو مستحيلاً.
ويحتاجُ الروس والأوكران إلى مَن يساعدُ في إنارة طريق السلام والبناء، وإرشادهم إليها، ومصاحبتهم حتى يبلغوها. ويبدو أنه ليس هناك مَن يقدرُ على ذلك الآن أكثر من الصين. مهمةٌ كبرى تنتظرُها، وتنطوي على فرصةٍ تاريخيةٍ لها، كما لروسيا وأوكرانيا، والعالَم أيضاً. دورٌ هائمٌ على وجهه في سماء الكوكب وأجوائه يبحثُ عمن يؤديه. دورٌ تشتدُ الحاجةُ إليه لوقف حربٍ تُفيدُ معطياتُ شهرها الأول أنها ستطولُ، وستزدادُ الخسائرُ المترتبةُ عليها.
دورٌ جديدٌ بالنسبة للصين، التي لم تُظهر حتى الآن قدراتِها السياسية، بعكس الحال فيما يتعلقُ بقوتها الاقتصادية وإمكاناتها التكنولوجية التي يعرفُ العالمُ عنها الكثير.. دورٌ يمكنُ أن يرفع الصين، إذا أمسكت به وقررت أن تتقدم لتؤديه وحشدت جهودَها لأجله، إلى مرتبةٍ لم تبلغها من قبل.
تتميزُ الصين بما لا يتوافرُ لغيرها، إذا عزمت على استثمار الفرصة، وعملت بشكل منهجي من أجل اتفاقٍ سياسيٍ ينزعُ فتيل التوتر لفترةٍ ربما تكونُ كافيةً لإعادة ترتيب الأوضاع على المستوى الأوروبي والعالمي.
تحظى الصين بثقة واسعة النطاق في العالم. وربما تكونُ الولايات المتحدة استثناءً وحيداً، لكن موقفَها سيضعُفُ حال تَحرُّك الصين من أجل إنهاء الحرب. سيكونُ العالمُ كلهُ معها، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي الذي قال مُنسقُ سياسته الخارجية جوزيف بوريل في مقابلةٍ مع صحيفة «البابيس» الإسبانية في 4 مارس الماضي إن «الصين هي التي قد تستطيعُ القيام بدور الوسيط لوقف الحرب».
ومن شأن علاقات الصين القوية مع روسيا أن تجعل كلمتَها مسموعةً لدى الكريملين. كما أن قدرتَها على تعويض موسكو عن خسائرها الاقتصادية، وعلى المشاركة في إعادة بناء أوكرانيا، تُدعِّم موقفَها حين تَطلبُ وقف الحرب، وحين تضغطُ من أجل حلٍ سلميٍ يضمنُ حيادَ أوكرانيا، ويُوفرُ لها ضماناتٍ أمنيةً، ويتضمنُ وضعاً خاصاً لمنطقتي دونيتسك ولوجانسك يحققُ لهما استقلالا ذاتياً كاملاً.
وفي هذه الحالة، سترتفعُ أسهمُ الصين مقابلَ انخفاض أسهم الولايات المتحدة، في «بورصة» النظام العالمي. وربما تَختصرُ بكين الطريقَ الذي تسلكُه منذ سنوات، وتتقدمُ فيه بهدوءٍ لتحقيق التوازن الذي بات ضرورياً في هذا النظام.


مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية