منذ بداية الأزمة في أوكرانيا، وأنا أحاول تجنب الاستضافات في المحطات التلفزيونية. فالقصة بالنسبة لي معقدة أكثر من مساحة دقائق بث على الهواء.

ما أعتقده يقيناً أن العالم بدأ يأخذ صيغته الجديدة في منظومة علاقات دولية مختلفة عن التي عهدناها بعد الحرب العالمية الثانية، وربما نحن الآن في منتصف هذا التحول العالمي الذي قد لا نستوعب تفاصيله اليوم، لكنه سيتضح بعد وقت قليل من الآن. الزحزحة في العلاقات الدولية تحدث دوماً، لكنها بحجم الزحزحة القارية، وبنفس مستوى تداعياتها التي تتطلب انهيارات متتالية لتبرز القوى الجديدة كما اللاعبون الجدد.

لو افترضنا بفانتازيا متخيلة وجود مركبة تعود بنا إلى الزمن الماضي، واخترنا صباح ذلك اليوم الذي سبق اغتيال ولي عهد النمسا، وأخبرنا نمساوياً عابراً في الطريق أن العالم سيكون فيه «بعد قليل» قطبين جديدين أحدهما الولايات المتحدة الأميركية، والآخر هو الاتحاد السوفييتي، ربما سيضحك كثيراً على الطرح، وقد يتهمنا بالجنون، خصوصاً إذا أخبرته أيضاً بعد جولة من الضحك على ما طرحناه أن النمسا لن تكون أكثر من جمهورية ديمقراطية بالغة الرفاه ضمن منظومة وحدة أوروبية ينسجم فيها الألمان مع الفرنسيين، هنا..قد يلاحقنا الرجل النمساوي مع جمع غفير بالحجارة. حسنا، النمسا صارت جمهورية رفاه اجتماعي ديمقراطية، بينما شريكتها في الإمبراطورية «المجر» جمهورية ديمقراطية بلا أي رفاه اجتماعي واقتصاد متعب. هل يستمر ذلك؟ لقد علمنا التاريخ أن انقلاباته مستمرة، وفي عالم العلاقات الدولية دوماً هناك متغيرات جوهرية تعكس ذاتها على تلك العلاقات.

وفي عالم اليوم، فإن المتغيرات هي الأكثر ثورة في مسيرة البشرية. نحن أمام تغيير في معطيات الطاقة مع بدائلها، والتغيير الأكثر أهمية أنك لم تعد بحاجة إلى آلة الزمن في عصر الفضاءات الافتراضية، وثورة تكنولوجيا المعلومات، حيث يمكن أن تختصر قراءة مجلدات بسؤال صغير على محركات بحث بحجم راحة اليد، كما صار سهلاً أن تعقد صفقات على بضائع من طرف الكرة الأرضية، فتحركها بكبسة زر إلى الطرف الآخر، وتدفع الأموال وتحولها بعقود توقعها على شاشة إلكترونية. هذا عالم مختلف، أعلن عن تغيير نفسه منذ سنوات، والمعطيات القديمة لم تعد تلائم لغته الجديدة والعصرية.

في العلاقات الدولية، هناك تغيير قوى، وتحالفات جديدة تبحث عن مصالح أيضا جديدة مبنية على لغة اقتصادية جديدة، وعلى عكس المتوقع من توحش رأس المال، فإن اللغة الجديدة تفرض التعاون في البنى الاقتصادية حتى يسير العالم في انسجام ولو بالحد الأدنى منه.

لا أستطيع التكهن بشكل العالم الجديد، لكن أعتقد أن عملية تبلوره النهائي قريبة جداً، وكل ما أتمناه ألا ندفع مزيداً من الدم كبشر في تلك العملية الشاملة، مثلما دفع العالم «قرابينه المليونية» في حربين عالميتين. هذه المرة، الأسلحة لم تعد باروداً وقذائف مدفعية على ثقل حجمها تبقى محدودة الأهداف، هذه المرة هناك تقنية موت مرعبة لا تنتهي عند رؤوس نووية بالآلاف، بل قنابل نوعية يمكن لها أن تنهي العالم كله في دقائق.

* كاتب أردني مقيم في بلجيكا.