سيستمر العمل العسكري الروسي قائماً ومستمراً ليس فقط بهدف تحسين شروط التفاوض الجاد بين روسيا وأوكرانيا من جانب والولايات المتحدة وروسيا من جانب آخر، وإنما لصياغة مفهوم جديد للأمن القومي الروسي في مواجهة الأمن القومي الأوروبي في المرحلة المقبلة.
وسيستمر أيضاً بسبب الرفض الأميركي لدخول روسيا النطاقات الأوروبية الحالية، وإجراء تغييرات في صيغ الأمن الأوروبي، حيث تطرح الولايات المتحدة إطاراً جديد للأمن الأوروبي بصرف النظر عن تسوية أزمة أوكرانيا، أو ما ستفضي إليه من ارتدادات حقيقية تشمل النطاقات الآسيوية بأكملها، وفي ظل وجود أطراف آخرى سيكون لها دورها في إطار ما يجري مثل الصين التي ما تزال، وستظل تعتبر نطاق بحر الصين الجنوبي منطقة نفوذ حقيقي لا يمكن لأي طرف الاقتراب منه، بل وعدم تجاوز حضورها الكامل في ملف تايوان، مما سيؤكد على ثوابت المصالح الكبرى لكل طرف في مجال أمنه.
التطورات الأخيرة تؤكد أن عالم ما بعد أوكرانيا سيكون مختلفاً في إطار إعادة التأكيد على استخدام القوة الممنهجة للحفاظ على القوة الكبرى في نطاقها، بل والعمل عليها من خلال مقاربات حقيقية ممكنة، ومستمرة ومن خلال جهد متنامٍ لكل دولة على حدة الأمر الذي يؤكد على أن استراتيجيات الردع التقليدية تنتهي لتفسح المجال لاستراتيجية ردع أخرى مستجدة تركز على إثبات القدرة على الردع التطبيقي والعملي، ومن خلال التصعيد المباشر مع وجود حدود للقوة واستخداماتها، وهو ما يؤكد على أن القوة التقليدية ستظل في جوهرها الرئيس حاكمة لما يجري من تطورات.
والتلويح بقوة الردع النووي من قبل موسكو، يمكن اعتباره دليلاً على استخدام القوة، مع العلم أننا ما زلنا في المرحلة الأولي من أزمة أوكرانيا، والتي ستطول أحداثها، وارتداداتها الكبرى على الجميع ليس في النطاقات الراهنة، وإنما في مناطق متعددة، وفي ظل حالة الاستقطاب الكبيرة التي تعلن عن نفسها، والتي ستؤدي لمزيد من التحولات السياسية والإستراتيجية الكبيرة، والتي ستعمل في مسارات متعددة ومهمة خاصة أن الجانب الروسي يدرك بالفعل بأن العقوبات الراهنة مؤثرة بالفعل، وموجعة للاقتصاد الروسي المنهك، ولكن وبنفس المنطق سيبقي الرهانات على الإجراءات المقابلة، وتأثر اقتصاديات الدول الغربية، خاصة في ظل عدم تعافي الاقتصاد الدولي من تداعيات أزمة كورونا.
المخاوف الاقتصادية ستدفع الأطراف المعنية بما فيها موسكو إلى تقديم تنازلات، وليس التشدد كما يتصور بعضهم، ومع بدء المفاوضات ستكون مرحلة جس النبض، والانتقال من خلالها إلى مرحلة المتابعة الاستراتيجية، وتقديم التنازلات تباعاً، وهو ما سيتطلب مرونة في بعض المواقف، مع العمل على أكثر من بديل، وهو ما تدركه واشنطن ودول حلف «الناتو». ومن المتوقع وفي حال استمرار المواجهات لمزيد من الوقت فإن التعهدات الأمنية والاستراتيجية التي يسعي إليها الجانب الروسي سيتم تنفيذها على الأرض عبر استراتيجية محددة ومباشرة من قبل الجانب الروسي وليس من خلال أي طرف آخر، وهو ما تدركه الولايات المتحدة، والتي تعمل في اتجاهات متعددة لإقرار أمن الناتو من خلال صيغ جديدة، وهو ما قد يواجه بتحديدات سياسية وأمنية مقابلة في حال تمسك الجانب الروسي بفرض استراتيجية الأمر الواقع، وعدم الإنصات فعليا لإستراتيجية الفعل ورد الفعل، أو التحرك عبر مسار واحد وهو ما يجب وضعه في الانتباه.
ستظل روسيا، وليس الولايات المتحدة تعمل على مسارات متعددة مستخدمة خيارها العسكري المكلف لفرض الترتيبات الأمنية والاستراتيجية في نطاقاتها الأمنية والاستراتيجية ليس في أوكرانيا فقط بل في مناطق التماس الاستراتيجي، وهو ما قد يؤخر التوصل لمقاربات أمنية عاجلة، ومهمة في سياقها الاستراتيجي، وفي ظل المخاوف من إطالة أمد الأزمة، وهو ما قد يؤدي لتكلفة كبيرة سيدفعها الجميع، وليس فقط موسكو جراء توسيع نطاق العقوبات، والعمل على محاصرة روسيا لدفعها للعودة عن توظيف قوتها العسكرية لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، وفرض خياراتها الأمنية على الجميع.
أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية والعلوم السياسية