ترتبط المقاطعة منذ الحرب العالمية الثانية بالقوة الاقتصادية والمالية للولايات المتحدة، والتي خرجت من الحرب دون أية عواقب، وذلك على عكس الاقتصادات الأوروبية المدمرة تماماً، لتعبّر عن مراكز القوى الاقتصادية الجديدة. وتعتبر كوبا أكثر مَن تعرض لهذه العقوبات المستمرُّ معظمُها منذ ستين عاماً دون تحقيق أية نتيجة، مما يعني فشلها. تلتها عمليات فشل متتالية في كوريا الشمالية والعراق ومؤخراً إيران وفنزويلا.
ويقف العالم الآن مبهوراً أمام عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا الاتحادية بسبب عمليتها العسكرية في أوكرانيا، مما يطرح سؤالاً جوهرياً: إذا كانت العقوبات السابقة التي فُرضت على جزيرة صغيرة وفقيرة مثل كوبا، أو دولة معزولة ككوريا الشمالية، أو على دول ذات اقتصادات ضعيفة مثل إيران وفنزويلا.. قد فشلت، فهل ستنجح العقوبات الحالية مع دولة كبيرة وغنية ومتعددة الثروات مثل روسيا؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، لا بد من الإشارة إلى أن الظروف التي فرضت فيها العقوبات على الدول الخمس السابقة تميزت بالهيمنة الاقتصادية شبه المطلقة لواشنطن على الاقتصاد العالمي، بينما لم تعد هذه الهيمنة قائمة الآن، ففي العقدين الماضيين تراجع الاقتصاد الأميركي كثيراً وبرزت قوى اقتصادية كبيرة لتنافس بقوة وتقدم بدائل لم تكن متاحةً في السابق، وبالأخص الصين التي تُعَد المنافس الرئيسي لواشنطن في مجال التقنيات والمبتكرات الحديثة، مما يعني أن الأسس التي استندت عليها العقوبات السابقة قد ضعُفت وشاخت.
وبالإضافة إلى التغير السابق في موازين القوى الاقتصادية، يمكن إيراد العوامل المهمة التالية، فروسيا اليوم تتحكم في 11% من إنتاج النفط و21% من إنتاج الغاز في العالم، حيث تزود أوروبا الغربية بنسبة 40% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي، بالإضافة إلى كونها واحدة من أكبر مصدري القمح والمعادن المتوفرة بكثرة في أراضيها، علماً بأنها تملك ثاني أكبر احتياطي للذهب، وقد تضاعف أربع مرات منذ عام 2010 وفق صحيفة «تلغراف». 

وهنا يبرز سؤال آخر: هل دولة تملك كل هذه الثروات الطائلة بحاجة للعالم أكثر مما هو بحاجة إليها؟ الإجابة على هذا السؤال ستساهم في تحديد مدى إمكانية نجاح المقاطعة، بدليل أن صادرات الطاقة الروسية مستمرة للدول المقاطِعة، كما أن عائدات هذه الصادرات من الدولارات تتدفق على روسيا رغم إخراج بعض بنوكها ومؤسساتها المالية من نظام «سويفت» مما يعني أنه لا يمكن الاستغناء عن موارد روسيا التي أصبحت مهمةً للنمو الاقتصادي العالمي.
والأمر هنا يتطلب معالجةً موضوعيةً، فما نراه هو فقط قمة الجبل من الأزمة الأوكرانية، فالأمر بالنسبة للغرب أكبر من أوكرانيا بالتأكيد، وهو ذو أبعاد مستقبلية خطيرة، حيث خلطت العملية العسكرية الروسية الكثير من الأوراق، وهو ما يفسر شمول العقوبات لرجال أعمال وفرق رياضية وطلاب جامعات، بل وأدباء روس توفوا قبل 140 عاماً ولا علاقة لهم بما حدث! في الوقت الذي يتطلب الأمرُ العملَ على إنجاح المفاوضات لإنهاء الحرب ووقف المعاناة، وبالأخص معاناة الشعب الأوكراني. 
وتجدر الإشارة إلى أن معظم دول العالم نأت بنفسها عن المقاطعة، بما فيها دول عظمى مثل الصين، وكذلك اقتصادات كبيرة مثل الهند والبرازيل والمكسيك وتركيا.. إذ أعلنت هذه الدول جميعاً عدمَ مقاطعتها روسيا، بالإضافة إلى كافة الدول العربية والأفريقية والأميركية اللاتينية تقريباً، مما يعني أن المقاطعة ستقتصر على الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وأستراليا وكندا، ناهيك عن أن روسيا تملك أوراقاً قويةً لم تستخدمها حتى الآن، ويمكن أن تساهم في تدهور الاقتصادات الغربية.
في كل الأحوال العالم بأجمعه سيدفع ثمناً باهظاً لهذه العقوبات وليس روسيا أو الغرب وحدهما، إذ أشارت «وحدة المعلومات البريطانية» إلى أن الحرب ستكلف الاقتصاد العالمي هذا العام 400 مليار دولار، لذلك على الجميع شد الأحزمة بانتظار ارتفاع كبير للأسعار ونسب تضخم عالية ستضر بالاقتصاد العالمي ككل. 

خبير ومستشار اقتصادي