لم يسترع انتباهي كتاب «ماكي صال: السِّنغال في القلب» في البداية، لكثرة ما صُنف في الرُّؤساء، كالكتاب الذي ألفه مثقفون عرب عن «حقوق الإنسان» عند رئيسٍ شهدت أعمدة الكهرباء على الجثث المعلقة، أو ما صنفه محترفو الِّرياء، في رئيس أوصل بلاده إلى أسفل الدَّرك، ومصائر الاثنين فاقت العجائب. 
أمَّا المذكرات التي أخذ يصدرها، مَن قصدهم الجواهري(ت: 1997): «ومِن عجب أنَّ الذين تكفلوا/بإنقاذ أهليه هم العثراتُ»(الرَّجعيون 1929)، كانت انغماساً بالأكاذيب. فإذا تصفحت مذكرات قادة الخراب، كـ «تجربتي» و«زنار النَّار»، و«خطاب الدَّولة» ستندب حظ العراق. 
بعد قراءة كتاب «صال» تمنيتُ للعراق مصلحاً، وإن استغرب القارئ مِن كتابتي عن السِّنغال، فالقصد وضع تجربة الرّجل أمام مَن تولى أمره، ففيها درس بليغ في إدارة الأزمات الحادة. كيف تدرج صاحبها في التَّعليم والمناصب، حتى الرِّئاسة. شدني الكتاب إلى نموذج رجل الدولة، مترجماً اختصاصه في المنصب. قدم «صال» تجربته في البناء، والحرب على الفساد، قبل رئاسته، تحت شعار «القطيعة مع الماضي». 
لهذا عندما تصدى ضد فساد نجل الرئيس السابق، أُخرج مِن بيته، ومُنعت مكاتب التأجير التَّعامل معه، فهو رئيس وزراء ويسكن مقابل إيجار. أمعن الرَّئيس في تحطيمه قائلاً: «ماكي سليل طبقة العبيد، وقد تم طردهم مِن القرية، أنَّ ابني كريم واد لن يقبل أبداً أنّْ يكون ماكي صال فوقه»! لكن ذلك جعله يعلن بقوة «تعزيز دولة القانون»! 
كان مثال صال مانديلا(ت: 2013) لوقوفه «بصلابة على حساب حريته»، وديغول(ت: 1970) «لجرأته ووطنيته»، وماوتسونغ(ت: 1976)، الذي قال فيه: «يمكن للإنسان أن يكون اشتراكياً ليبرالياً مع الإعجاب بالقائد الكبير»، ليس تبعية، إنما مجرد إعجاب. فلم يرهن صال بلاده لدى جنوب أفريقيا ولا فرنسا ولا الصين. مثل هذا التصرف نجده بين الحزبيين مِن أهل العقائد، فالزعيم مِن خارج الحدود يُعطى حقَّ التَّصرف ببلدانهم. 
ما استفاده صال مِن دراسته الجيولوجيَّة صبه خيراً على بلاده الفقيرة، ترجمه في نظرته للبناء. كان محباً للتَّاريخ، لكنه لم يصبح أسيراً له، فعنده «التَّاريخ يتشكل مِن طبقات الأشياء المُترسبة، ومِن الأطوار والمراحل الزَّمنيَّة المتتابعة، ولا يمكن أن تكون هناك كتلة متجانسة». هذا ما ساعده في العمل بين مختلف الآراء والعقائد، جاعلاً السِّنغال هدفه، وبالاستفادة مِن النَّهر الذي سميت به «السِّنغال»، حصل تقدم زراعي هائل. 
استفاد من صلاته السَّابقة مع الشّركات الكبرى، عندما كان يعمل متدرباً فيها، مثل «بتروسين» الفرنسية، في تطوير مجال البترول والغاز السَّائل، والطَّاقة الشَّمسيَّة، بمعنى لم يستخدم تلك الصلات لمنح عقود مزيفة. عمل على تطوير التَّعليم وتحديثه والتَّوسع في بناء المدارس. 
حافظ صال على الإسلام المتنور ببلاده، كي يحميها مِن نوازل الإسلام السِّياسي، معترفاً للمغني السِّنغاليّ «ريسندور» دعمه في حملته الانتخابيَّة، وعندما سُئل: «هل سيجعله وزيراً للثقافة»؟! قال: «يستحق ذلك إذا أراد، فالبلاد لابد أنْ تستفيد مِن شهرته». اشتهرت السِّنغال برئيسها الأول الشَّاعر ليوبولد سنغور(ت: 2001)، ورئيسها الرّابع الجيولوجي صال، ذاك له دور التَّأسيس وهذا له دور الإعمار. 
الخلاصة، إنَّ البلدان مهما كانت غنية، تكن فقيرة بساستها، ومهما كانت فقيرة تصبح غنية بساستها أيضاً. أما ترون كيف اختفت الرِّمال والأملاح تحت العمائر والأبراج والوصول إلى الفضاء، وكيف أفلت بلاد كانت رائدة في التَّاريخ البعيد والقريب؟! 

كاتب عراقي