يستخدمُ من يتشبثون بالحكم في ظروفٍ غير طبيعية مُجادلةً تبدو للوهلة الأولى متماسكةً، وهي أنهم لن يُسلموا السلطة إلا إلى حكومة مُنتخبة.

والمنطقُ في هذه المجادلة أن الانتخابات العامة هي الوسيلة الوحيدة لتحديد من يتعين تسليم السلطة له، منعاً لصراعات تترتب على ادعاء أكثر من طرف أن لديه الشرعية التي تُخوله الحصولَ عليها. والمجادلةُ صحيحة من حيث المبدأ.

لكن استخدامها في غير محلها قد يجعلُها حقاً يُراد به باطل. ولهذا، يتوقفُ الأمرُ على السياق الذي تُثارُ فيه مسألةُ انتقال السلطة. وعندما تُطرحُ هذه المجادلةُ في حالة ليبيا الآن، سعياً للطعن في مشروعية تكليف مجلس النواب فتحي باشاغا بتأليف حكومةٍ جديدة، يصبحُ من الضروري إخضاعها لمناقشة منهجية على أساس موضوعي وفق مُعطيات هذه الحالة.

ونقطةُ البداية هنا هي تحديد معنى الحكومة المنتخبة بوجه عام. فهذه الحكومة هي التي يُختار رئيسُها ويُشكلُها بموجب قرارٍ يصدر من جهةٍ مُنتخبة، سواء رئيس الدولة في النظام السياسي الرئاسي وشبه الرئاسي، أم المجلس النيابي في النظام البرلماني. والحكوماتُ لا تُنتخبُ بشكلٍ مباشر. ولا توجدُ في العالم اليوم، أو في أي وقت مضى، حكومةٌ انتُخب رئيسُها وأعضاؤها من الشعب بشكل مُباشر.

والحكومةُ المُنتخبة بهذا المعنى هي محصلةُ انتخابات رئاسية أو نيابية، إذ لا يوجدُ نوع آخر من الانتخابات العامة. في النظامين الرئاسي وشبه الرئاسي، يُنتخبُ الرئيسُ ثم يُكلف من يتولى تشكيل الحكومة، ثم تَطلبُ هذه الحكومة الثقةَ من البرلمان. وفي النظام البرلماني، تُجرى الانتخاباتُ بين أحزاب سياسية، ويَحقُ للحزب الحاصل على الأغلبية تشكيل الحكومة التي يرأسُها زعيمُه في الأغلب، فيما يدخلُ الحزبُ الذي ينالُ أكثرية المقاعد في مفاوضاتٍ مع أحزابٍ أخرى، لتشكيل حكومةٍ ائتلافية.

وفي الحالتين، لابد أن تنال الحكومةُ التي تؤلَّفُ ثقةَ البرلمان. ونظراً لعدم وجود دستور يُحدد طبيعة النظام السياسي في ليبيا الآن، فالأقربُ إلى معطيات الواقع أن نعتبره نظاماً مختلطاً (برلماسي).

وفي مثل هذا النظام، يُكلِّفُ الرئيسُ بالاتفاق مع البرلمان مَن يُؤلفُ الحكومةَ. لكن لا يوجدُ رئيسٌ الآن في ليبيا، بل مجلسُ رئاسي. وقد اختار هذا المجلسُ منذ البداية أن يكون دورهُ محدوداً، وأن يُركز على محاولة التوفيق بين لأطراف المُختلفة.

ولهذا، أصبح الوضعُ أقرَبَ ضمنياً إلى النظام البرلماني الذي يكونُ دورُ الرئيس فيه محدوداً. وفي هذا النظام يتولَّى مجلسُ النواب المُنتخب تكليفَ الشخص الذي يؤلفُ الحكومةَ، ثم يصوِّت عليها لمنحها الثقة من عدمه.

وقد مارس مجلسُ النوابُ الليبيُ دوَره هذا، بالتشاور مع رئاسة المجلس الأعلى للدولة. ولأن مجلس النواب مُنتخبٌ من الشعب، ومستمرٌ في أداء دوره الذي لا ينتهي إلا بإجراء الانتخابات النيابية المؤجلة، تصبحُ الحكومة التي يقومُ بتكليف رئيسها، ويصوِّت عليها، مُنتخبةً وفق القواعد المعمول بها في تشكيل الحكومات في العالم كله.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية