مع ريان، ومع حكاية ريان، معظم العرب - إن لم أقل كلهم، وأنا واحد منهم - كنا في البئر معه، نعيش التفاصيل الموجعة لحظة إثر لحظة، ونتجرع صنوف الخوف والوحدة ثانية تلو الأخرى، في ذاك الجُب العميق كنا نترقب على مدار خمسة أيام فرصة للنجاة، كما كنا نرقب ساعة للفرج، انحبست الأنفاس، وظل الأمل كبيراً بأن يبقى ريان ونبقى.

لكن الصبي الصغير لم ينج، فيما نحن بقينا نتألم، ليس فقط لفقده، إنما لأن كل الجهود التي بُذلت لإنقاذه لم تفلح، فسقطنا في الجب مرتين مرة مع ريان، ومرة بعد رحيله.

على ما يبدو فإن البشر لا يتحدون إلا عندما تكون الطفولة في خطر، وحين تصبح حيوات الأطفال على المحك، أي بين الحياة والموت، في عالم مليء بالحروب والنزاعات والأحقاد أكثر من يدفع الثمن باهظ التكلفة هم الأطفال، لكنهم ورغم ذلك يظلون أملنا بأن نتحد إنسانياً، ويساند بعضنا روحياً، وهذا ما حدث مع قضية ريان المغربي، ومن قبله حادثة غرق الطفل إيلان السوري، في مثل هكذا أزمات يتّحد العالم ألماً، لكننا بالطبع نزيد شقاء. وما هذان الطفلان إلا مثالين عما وصلنا إليه، وعن الحال الذي نحن فيه، وحدهم الأطفال هم الذين يؤالفون بين قلوبنا.

قضية ريان نزعت - على سبيل المثال لا الحصر - كل خلاف بين أبناء الجزائر وأبناء المغرب على وجه الخصوص، وقرّبت - بشكل عام - المسافات بين أقصى نقطة في شرق الوطن العربي وأبعد نقطة في مغربه، وحدت الشمال مع الجنوب، مثلما وحدت القلوب على أمل واحد ووحيد، وهو النجاة.. نجاة الطفل. لم يكن يدرك الصبي الصغير أنه سيجمع فيما بيننا إنسانياً، وأننا كلنا سنلهج بالدعاء له كي يعيش ويعود سالماً إلى أهله، لكن ذلك لم يحدث، فغادر الحياة الدنيا تاركاً لنا الألم كي نتجرعه، والحزن كي يكوينا، والخواء الذي لا منجاة لنا منه وفيه.

وكالعادة في مثل هكذا أزمات إنسانية وظروف بائسة، ثمة من يحاول فلسفة الأمور وتعقيدها، وأخذها إلى موقع غير موقعها، أو ربما جذب الأنظار نحو مواقع التواصل الاجتماعي العربية، تلك التي ضجت بخبر ريان منذ سقوطه في الجب، وحتى لحظة إعلان وفاته وما بعدها أيضاً، كثرٌ هم النبلاء، لكن ثمة من ادعى النبل وهو ليس من صفاته.

«مشاهير وشهيرات» سجلوا مقاطع لهم وهم يبكون ريان، لكنهم بدوا مزيفين، فلم يقنعوا المتابعين بما أبدوه من أسى، خصوصاً أن هؤلاء وأمثالهم يعيشون على اجترار آلام الناس ومآسيهم، ثم ما يلبثوا وأن عادوا إلى حياتهم وكأن ما أبدوه من مشاعر ليس إلا جزءاً من حالة الهرج التي يعيشونها لحظياً، وبالطبع بعض وسائل الإعلام تدور في الفلك ذاته.

مات ريان الذي لم يسمع به أحد من قبل، ولا حتى كل سكان مدينته، تاركاً الوجع الحقيقي والشعور بالفراغ لوالديه وأفراد أسرته على وجه التحديد، أما العالم فقد عاد إلى ما كان عليه، روح ريان فاضت إلى بارئها، لكنها باتت رمزاً، فخلّدت اسمه في ذاكرتنا وفي تاريخنا.

لست هنا بمعرض الرد على اللوّامين الذين صبوا جام «الغضب» على ذوي الطفل، فألقوا بالمسؤولية عليهم كاملة، ولا بمعرض الدفاع عن هذين الوالدين وهما المكلومين اللذين يحتاجان إلى المواساة، وإلى مواقف تدعمهم بحق.

الدموع لن تعيد الصغير إلى داره، لكن طوبى لمن يسند اليوم قلب الأم المفجوعة وظهر الأب الذي انكسر.