رحل مؤخراً الناقد والمفكر المصري جابر عصفور الذي خصص أعمالَه وكتاباتِه في السنوات الأخيرة للدفاع عن مشروع التنوير العربي، الذي اعتبر أنه تراجع كثيراً في السنوات الأخيرة. كان شعار عصفور هو المقولة الكانطية الشهيرة التي لخص فيها الفيلسوف الألماني فكر الأنوار: «دافع عن الحقيقة برأيك الحر»، وكانت الحقيقة بالنسبة له تعني الرؤية العقلانية الصارمة والنقدية.

كان عصفور آخر نموذج من نماذج جيل التنوير المصري الذي تربّى على يد طه حسين، وقرأ لسلامة موسى وأحمد لطفي السيد وآمن بقدرة المثقف على تحطيم الأوهام السائدة وتحرير الوعي الجماعي والنهوض بالمجتمع.

ولا شك في أن هذا النموذج انحسر خلال العقود الأخيرة في الساحة العربية، بل إنه أصبح مدار نقد جذري لدى قطاع واسع من الكتَّاب الذين وجَّهوا سهام نقدهم لـ«المثقف الداعية» ولـ«أوهام النخبة»، واعتبروا أن الموقف الفكري المطروح هو تحرير الثقافة العربية من قيم العقلنة العمومية والوصاية الرسالية وأدبيات الانتلجنسيا القائدة لمسار التحرر الجماعي.

نلمس هنا اتجاهاً متأثراً بالمقاربات التفكيكية التي دخلت إلى الساحة الفكرية العربية عبر بوابة «فلسفات الشك» حسب عبارة بول ريكور، وعبر الكتابات النقدية الجديدة في منظورها لبناء النص وتشكّلاته الدلالية. لقد استنسخ العديد من الكتاب العرب مقولات نيتشه وهايدغر وميشال فوكو وجاك دريدا.. خارج سياقها المرجعي الذي ظهرت فيه كردة فعل على ديناميكية تنويرية انتقلت من هدف سيطرة الإنسان على الطبيعة، عن طريق العلم والعقلانية المطبقة، إلى نظام للهيمنة الاجتماعية الخانقة بالاستناد إلى سلطة المعرفة وإكراه إرادة الحقيقة. كما كانت هذه المقولات احتجاجاً على انتقال المثقف من دور رائد التفكير النقدي إلى دور صانع الوعي وحارس النسق السائد الذي يتحكم في إنتاج الحقيقة والمعنى.

كان جابر عصفور الذي أشرف على ترجمة ونشر أهم ثمرات الإبداع الإنساني المعاصر، وأصدر إحدى أهم المجلات النقدية العربية الحديثة التي عرفت بالاتجاهات اللسانية والأسلوبية الجديدة، شديد الاطلاع على التيارات ما بعد الحداثية في أصولها الغربية، وشديد الحذر من استخداماتها المضللة في الواقع العربي الذي لا يزال يحتاج لصورة المثقف التنويري من أجل هدم المسلمات الزائفة وتحرير العقل الفردي والجماعي. ولا شك في أن الموجة الراهنة من الثقافة الرقمية المنتشرة قد فرضت استعادة صورة مفكر الأنوار لمواجهة ما نشهده من انهيار مفهوم الحقيقة نفسه الذي هو محور العقلانية النقدية. وفي هذا السياق، يلاحظ أوليفييه آبل أن أهم مشكلة يواجهها الفكر الإنساني اليوم هي الانزياح المتزايد بين لحظتي بناء النص وتأويله، بحيث إن مسار المعنى أصبح متضمَّناً في آلية إنتاج المعلومة المكتفية بنفسها.

فبدلاً من الحقيقة من حيث هي دلالة تقويمية حاسمة، أصبحنا نعيش في نظام الفكرة المتداولة المقبولة التي لا تتطلب برهنةً ولا استدلالاً وإنما تستند في تبريرها لكثافة الانتشار والتبادل، في الوقت الذي تشجع شبكات التواصل الاجتماعي مجموعات الحقيقة المتقاسمة التي لا تتعدى الانطباعات الشعورية المشتركة. في مثل هذا المناخ، لا تبقى معايير دقيقة وعقلانية لفصل الحقيقة عن الخطأ، والقيم الإنسانية العليا عن ظواهر الاستلاب والتعصب والتوحش.

ومن هنا العلاقة البديهية بين الاتجاهات الجامدة المتطرفة من جهة، ومن جهة أخرى التيارات النقدية للحداثة في نسخها التفكيكية التي سادت على نطاق واسع في الأدبيات العربية الرائجة. عندما طغت في كل أوروبا خلال الستينيات الموجة البنيوية التي تركز على الأنساق الثابتة والهياكل المتزامنة على حساب المقاربات التاريخية الإنسانية، كتب جان بول سارتر محذراً من هذه الموجة الجديدة التي اعتبر أنها تقضي على كل المعايير الدافعة للالتزام المجتمعي الذي هو خصوصية المثقف منذ عصور التنوير. ورد ميشال فوكو على سارتر مبشِّراً بنهاية الإنسان ومبرِزاً نظام الحقيقة كأداة من أدوات السلطة والهيمنة.

بيد أن فوكو الذي توفي عام 1984 كان قد انتبه في أعماله الأخيرة إلى أهمية «أخلاقيات الحقيقة» التي أطلق عليها فلاسفة اليونان عبارة «البارسيا»، بحيث تكون الفلسفة عملية تدبير للذات عبر محنة الحقيقة. لقد أدرك خطورةَ التخلي عن مفهوم «الحقيقة» أو مركزية «قول الحق» في كل خطاب موجّه للعموم، في ما وراء تغيرات وتقلبات أنساق المعارف ومعاييرها المتباينة لإنتاج الحقيقة. لقد كان جابر عصفور وفياً لهذا التصور التنويري للحقيقة الذي دافع عنه من منظور نقدي ملتزم ظل متشبثاً به كخيار وحيد لنهوض المجتمع العربي وتحرره.

*أكاديمي موريتاني