في عام 1987 قال الكوميدي الفرنسي غاي بيدوس: «إن اليسار بات الآن هو الوسط، والوسط هو اليمين، واليمين هو اليمين المتطرف». وبعد 30 عاماً على ذلك، أصبح اليمين أكثر تطرفاً بينما أضحى اليمين المتطرف أكثر احتراماً. أما بالنسبة لليسار فبات في عداد المفقودين.
هذا ليس هزلا، فبفضل الحزب الاشتراكي اتجهت الديمقراطية للتناغم مع الكرم والإنسانية. وعلى بعد أربعة أشهر من الآن ستجري الانتخابات الرئاسية، وهناك احتمال كبير لأن تكون لقضية اليسار المفقود عواقب وخيمة على هذا الفهم الأقدم والأعظم للديمقراطية. 
على مدى الأسابيع القليلة الماضية، تناولت وسائل الإعلام الأميركية والفرنسية آفاق اليمين السياسي في البلاد. وهناك حدثان اثنان استأثرا باهتمام المعلِّقين بشكل خاص هما: اختيار فاليري بيكريس مرشحةً لحزب الجمهوريين المحافظ والدخول الرسمي للمعلِّق العنصري إيريك زمور إلى السباق.

أما بالنسبة لليسار فيبدو أنه لم يتبق الكثير، وهو تطور لم يكن ليتنبأ به أحد حتى قبل 25 عاماً من الآن. والواقع أن مصطلحي «اليسار» و«اليمين» لم يُنحتا في بوتقة الثورة الفرنسية فحسب، بل لطالما لعب الأول دوراً أساسياً في الحياة السياسية الفرنسية. وعندما كانت في أحسن أحوالها، شدّدت الاشتراكية الفرنسية على المُثل الإنسانية للثورة، والتي عبّر عنها الزعيم الاشتراكي جون جوريس خلال القرن التاسع عشر: «في كل فرد، ينبغي أن تُحترم الإنسانية احتراماً كاملا وأن تمجّد لأبعد الحدود».
غير أنه بعد قرن على ذلك، بات الحزب الاشتراكي المجزّأ والمقَسَّم «متجهاً مباشرةً إلى كارثة حقيقية»، على حد تعبير السياسي الاشتراكي رفائيل غلاكسمان. مخاوف غلاكسمان يشاطرها قادة اشتراكيون آخرون. وإذا فشل الحزب في توحيد نفسه مع بداية 2022، كما قالت عمدة باريس الاشتراكية آن هيدالغو مؤخراً، فإنه لن يعود هناك مستقبل لليسار في فرنسا. 
هيدالغو، المرشحة الرئاسية للحزب الاشتراكي، تدعو إلى انتخابات تمهيدية داخل اليسار من أجل اختيار مرشح رئاسي واحد.

لكن دعوتها لم تلق آذاناً صاغية، إذ رفض المرشحان الرئيسيان على اليسار جون لوك ميلونشون (زعيم حزب «فرنسا الأبية» المحسوب على أقصى اليسار) ويانيك جادو (زعيم الخضر) الدعوةَ، وكذلك فعلت كريستيان توبيرا، وهي وزيرة عدل سابقة أعلنت قبل أيام قليلة اعتزامها الترشح أيضاً لتمثيل اليسار.
وعلاوةً على صخب هذه الحملة المحبطة، هناك مشاكل أعمق وأعوص. فمنذ عهد ميتيران في الثمانينيات، تآكلت بشكل دراماتيكي قاعدةُ الحزب الانتخابية، المكونة من العمال بشكل أساسي. وانحصرت قاعدة الحزب في الطبقات المهنية في المدن، بينما تغيرت طبيعة «كاسبي الأجور»، حسب مصطلح العالم السياسي جيروم فوركيه، من «عامل المعادن بمصنع رونو للسيارات إلى سائق التوصيل في أمازون».

كاسبو الأجور هؤلاء، الذين يعيشون في الضواحي، يشكّلون ما يسميه عالم الاجتماع كريستوف غيلي «الأطراف»، وهي كلمة يتجاهلها أو يزدريها الحضريون من حملة الشهادات الذين يقطنون المدن الكبيرة.
والواقع أن اتجاهات التصويت تعكس هذا التحول الكبير، ففي عام 1988 صوّت نصف العمال تقريباً لمرشح اليسار، وبعد ثلاثة عقود على ذلك، وتحديداً في عام 2017، انخفضت النسبة إلى الثلث. وكان أكبر مستفيد من هذا النزيف الانتخابي هو اليمين المتطرف. فإذا كان 17% فقط من العمال قد صوّتوا لجو ماري لوبين في عام 1988، فإن أكثر من ضعف هذا العدد صوّت لابنته مارين لوبين في عام 2017. ورغم أن مناظرتها أمام إيمانويل ماكرون كانت كارثية، فإن لوبين أثبتت مع ذلك أن مرشحاً من اليمين المتطرف يمكنه، من خلال التشديد على موضوعة «هم في مقابل نحن»، أن يروق لكتلة ناخبة كانت مرتبطة بالاشتراكية ذات مرة.
ما تعنيه هذه الاتجاهات بالنسبة لفرنسا هو أمر مفتوح للنقاش، غير أن ما تعنيه بالنسبة لحاضر فرنسا هو أمر لا نقاش فيه. والهجرة ليست سوى مثال واضح. فبينما يدعو زمور لسياسة «صفر تسامح» وتتعهد لوبين باستفتاء وطني حول الموضوع، فإن كلا من ماكرون وبيكريس أخذا يميلان إلى اليمين أكثر.

ذلك أنه إذا كان ماكرون في 2017 قد روّج لمقاربة «إنسانية» للهجرة، فإنه بات يشدّد الآن على سياسة «انتقائية» بشكل صارم. أما بالنسبة لبيكريس، فإنها يجب أن تهدِّئ اليمين المتطرف داخل حزبها الذي يزعم، على غرار زمور، أن عملية «استبدال عظيمة» للفرنسيين الأصليين من قبل المهاجرين المسلمين باتت تهدِّد فرنسا.
غير أن ميل المشهد السياسي الفرنسي إلى اليمين ليس حتمياً. فإذا كانت المصلحة الشخصية عاملاً في دعوة هيدالغو إلى انتخابات تمهيدية لليسار، فكذلك الحال بالنسبة للاهتمام بمصير حزبها وبلدها. ومثلما قالت هذه السياسية اليسارية المنحدرة من أسرة مهاجرين إسبان مؤخراً، فإن فرنسا ما كانت لتكون فرنسا لولا المهاجرين. 
وإذا كان الاشتراكيون يأملون أن يؤثّروا في مستقبل بلدهم، فإنهم لا يمكنهم رفض ماضي بلدهم. كما أنهم مطالَبون ليس فقط بالاتفاق حول مرشح واحد ولكنهم مطالَبون أيضاً بالاتفاق حول برنامج واحد يعالج مخاوف الناخبين الاقتصادية التي كانوا يمثّلونها ذات يوم، مع التشبث بالمُثل الإنسانية التي مثّلها حزبهم دائماً. ولا شك في أنه من مصلحة فرنسا أن تكون الكلمة الأخيرة لجوريس، وليس لبيدوس. 

روبرت زاريتسكي

أكاديمي أميركي وأستاذ بجامعة هوستون الأميركية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»