الكثير من «الجمهوريين» المعارضين لترامب يتوقون إلى اليوم الذي يستطيعون فيه استعادة حزبهم وطرد الانحرافات الشعبوية التي تزعجهم كثيراً، ولكن أدلة من حول العالم تُظهر أن ذلك بات حلماً شبه مستحيل. ذلك أن التصدعات نفسها في الائتلاف المحافظ القديم التي يعاني منها الحزب «الجمهوري» تظهر في كل الديمقراطيات الحديثة الأخرى تقريباً. إذ نمت الأحزاب القومية والشعبوية كثيراً خلال العقد الماضي وتقوّت لدرجة أنها استطاعت في كثير من الأحيان تحقيق المناصفة تقريباً مع أحزاب «يمين الوسط». وفي الأثناء، أخذ الناخبون في المناطق الحضرية والضواحي يميلون في كثير من الأحيان إلى الأحزاب الليبرالية تقليدياً أو الأحزاب الخضراء التي تجد راحة في الاصطفاف مع حكومات يسارية.

ويمكننا رؤية هذا الأمر بوضوح في استطلاعات الرأي الأوروبية ونتائج الانتخابات الأخيرة. فاستطلاعات الرأي الاسكندنافية تُظهر حصول الأحزاب الشعبوية القومية على ما بين 11 و19 في المئة من الأصوات. وحزب «إي كي آر إي» الشعبوي في إستونيا متقدم الآن في استطلاعات الرأي في البلاد بـ22 في المئة، بينما يتزعم حزب «فلامس بيلانج» الفلاماني الانفصالي والمناوئ للمهاجرين استطلاعات الرأي البلجيكية. كما حصلت الأحزاب الشعبوية القومية في النمسا وإسبانيا على معدلات مهمة في استطلاعات الرأي، وحصل ثلاثي من الأحزاب القومية على أصوات قرابة ربع الناخبين الهولنديين في استطلاعات الرأي الأخيرة. وبالتالي، فإن تشكيل ائتلاف من «يمين الوسط» لم يعد ممكناً من دون مشاركة هذه الأحزاب.

أما أحزاب يمين الوسط التي ترفض هذا الخيار، فيجب عليها دائماً أن تشكّل حكومات مع أحزاب من الوسط، أو حتى مع خصومها التقليديين من يسار الوسط. وعلى سبيل المثال، فإن الحكومة الهولندية المقبلة المشكّلة من أربعة أحزاب ستشمل «الديمقراطيين 66»، وهو حزب من يسار الوسط. وهذا يعني أن اتفاق الائتلاف الجديد سيشمل زيادات مهمة في الإنفاق بالنسبة للتعليم وتغير المناخ، مما حدا ببنك «آي إن دجي» إلى إعلان أنه «وداع للتقشف الهولندي».

وفي النمسا، يحكم المحافظون مع «الخضر»، ما أدى إلى ميزانية تضمنت تخفيضات ضريبة لفائدة الشركات وناخبي الطبقة العاملة في مقابل زيادات في ضرائب الكربون من أجل مكافحة تغير المناخ. هذه الأحزاب، وعلى غرار الكثيرين في الجناح المعتدل وجناح المال والأعمال في الحزب «الجمهوري»، تُفضل أن تميل إلى الوسط اقتصادياً على أن تميل إلى اليمين بخصوص القضايا الثقافية بغية إرضاء الشعبويين. هذا الاختيار قد يبدو مستهجناً للكثيرين، ولكن عدم الاختيار بين هذين الخيارين مستحيل. «الحزب الديمقراطي المسيحي» الألماني من يمين الوسط حاول فعل ذلك خلال الانتخابات الألمانية الأخيرة، حيث اختار سياسياً باهتاً من الوسط، هو آرمين لاشيت، مرشحاً عنه لمنصب المستشار، بدلاً من أن يميل يميناً لاستعادة أصوات المحافظين المنجذبين إلى حزب «البديل من أجل ألمانيا» الشعبوي.

فحقق «الحزب الديمقراطي المسيحي» أسوء نتيجة له على الإطلاق، ولم يفز سوى بـ24 في المئة من الأصوات. إذ انتقل ناخبو الحزب السابقون المعتدلون إلى «الخضر» أو «الديمقراطيين الأحرار» الليبراليين الكلاسيكيين، وكل واحد منهما كسب أصواتا، بينما تمسك المحافظون بحزب «البديل» أو دعموا واحدا من ثلاثة أحزاب شعبوية يمينية لم تحصل على ما يكفي من الأصوات لدخول البرلمان. ويذكر هنا أن الحكومة الألمانية الجديدة عبارة عن ائتلاف يتألف بين «الديمقراطيين الاجتماعيين» و«الخضر» و«الحزب الديمقراطي الحر»، بينما اختار «الحزب الديمقراطي المسيحي» متأخراً خصمَ لاشيت السابق، السياسي المحافظ فريديريتش ميرتس، زعيماً جديداً له.

الأدلة تشير إلى أن سياسات ريجان-تاتشر المحافظة لعهد الثمانينيات باتت شيئا من الماضي لأن الائتلافات التي تبنى على تلك الصيغة – أسواق حرة، توجه عالمي، سياسات دفاعية قوية – لم تعد تفوز بالأغلبيات. غير أن الصيغة الفائزة المحافظة الجديدة من الصعب جدا تحقيقها على اعتبار أنه يجب إرضاء العنصر «الريجاني» الذي ما زال مهما، وفي الوقت نفسه الفوز بتأييد الشعبويين القوميين والناخبين من سكان الضواحي المعتدلين.

ولا شك أن مواجهة خصوم غير أكفاء يميلون إلى اليسار أكثر مما ينبغي، مثل جيرمي كوربن في بريطانيا، يساعد على توحيد هذه المجموعات المتباينة بسبب الخوف. غير أن أي شخصية من يمين الوسط لم تستطع حتى الآن تشكيل مثل هذا الائتلاف على أرضية تصمد في وجه ضغط ممارسة الحكم. وعليه، فيجدر بالاستراتيجيين «الجمهوريين» أن يحسنوا قراءة المؤشرات الآن ويعملوا على بناء ذلك الائتلاف القوي القادر على البقاء. فكلما تجاهلوا الواقع، قلّ احتمال فوزهم في انتخابات 2024 وما بعدها.

*زميل «مركز الأخلاقيات والسياسات العامة» في واشنطن

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»