هناك مدرسة فكرية ترى أنه إذا عاد ترامب باكتساح إلى السلطة عام 2024، أو خسر بفارق طفيف لزج البلاد في أزمة دستورية كتلك التي سعى إليها عام 2020، وستكون وسائل الإعلام غير الحزبية رسميا من العوامل المساعدة في دعم توجه ترامب؛ وبذلك تكون قد أخفقت في أن توضح بشكل مناسب خطر ترامب على الديمقراطية الأميركية بتفضيلها حياداً كارثياً على الوضوح الأخلاقي، وتغطيتها الرئيس جو بايدن، وربما نائبته كامالا هاريس، كما لو أنهما سياسيان عاديان، وليسا الأمل الأفضل الأخير للجمهورية.

لكني أرى خطأ كبيرا في هذه الرؤية التي تتلخص في أن حياد وسائل الإعلام له ميل ضمني مؤيد لترامب، بل أعتقد أن هذه الرؤية لدور وسائل الإعلام هي التي تدعم قوة الديماغوجيين وتذكي الاستقطاب وتعزز احتمالات وقوع أزمات داخل نظامنا.

ولفهم السبب، دعونا ننظر إلى دراسة حالة، وهي الانتخابات الأولية الجمهورية في جورجيا، لاختيار حاكم للولاية. في هذه الانتخابات يتنافس ديفيد بيردو، السيناتور السابق الذي خسر جولة الإعادة في إعادة انتخابه عام 2021، مع براين كيمب، المحافظ الذي يشغل منصب الحاكم والشهير بكراهية ترامب له. وهذه الكراهية هي السبب الوحيد الذي جمع بين هذين المرشحين؛ فترامب غاضب من «كيمب» لأنه تمسك بواجب النزاهة كحاكم لجورجيا، ولم يسر في ركاب هوجة «أوقفوا سرقة» الانتخابات.

ولذا يريد ترامب إلحاق الهزيمة بكيمب ويأمل أن يقوم بيردو أو فيرنون جونز، أو مرشحون آخرون أكثر تمسكا علنا بمبدأ «لنجعل أميركا عظيمة من جديد»، بالعمل بالنيابة عنه. ونتيجة لهذا ستصبح انتخابات جورجيا الأولية على منصب حاكم الولاية استفتاء فعليا، ليس فقط على نفوذ ترامب العام في الحزب «الجمهوري»، بل أيضا على قدرته على التحرش واستفزاز مسؤولين «جمهوريين» منتخبين في حال وجود انتخابات محتدمة.

ويتعين على الصحفيين تغطية الحملة، وهذا الواقع في عقولهم، مؤكدين على أسباب هذا الجمع بين المرشحين وتداعياته الخطيرة على الطريقة التي قد يستجيب بها مسؤولون «جمهوريون» على محاولة في المستقبل لقلب تصويت رئاسي.

لكن هل هذا هو الشيء الوحيد المسموح به لصحافة مسؤولة لتغطيته أثناء الحملة؟ لنفترض، على سبيل المثال، أنه في خضم الحملة، اندلعت فضائح كبيرة تنطوي على فساد واضح متورط فيه كيمب، فهل يجب على الصحفيين في جورجيا رفض تغطية هذه الفضائح لأن خسارة كيمب ستدعم القوى المناهضة للديمقراطية؟ أو لنفترض أن الاقتصاد في جورجيا تدهور قبل الانتخابات الأولية أو تصاعدت إصابات كوفيد، فهل يجب على الصحفيين إلقاء الضوء على هذه القصص، علما بأنها قد تساعد «بيردو» على الفوز، أم يجب عليهم إخفاؤها لأن الديمقراطية نفسها في خطر؟

وإذا ادعت أمرأة أن «بيردو» تحرش بها، فهل يجب على الصحفيين تضخيم هذا الادعاء دون تدقيق واجب، لأن هذا سيكون جيدا للديمقراطية الأميركية بخسارة بيردو الانتخابات، ويمكنهم بعد ذلك تصحيح ما نشروه لاحقا إذا اتضح بطلان المزاعم؟ إجابتي عن هذه الأسئلة تعتمد على مبدأ أن الالتزام الصحفي بالحقيقة لا يمكن التخلي عنه أبدا في سبيل تحقيق نتائج سياسة معينة مهما كانت هذه النتائج في صالح الديمقراطية.

وهذا الالتزام له غاية نفعية أيضا؛ فالصحافة التي تحاول التعتيم على الحقيقة، أو إخفاء حقائق واضحة في ذاتها من أجل قضية أعلى، ستخسر، لا محالة، ثقة بعض الناس الذين تحاول دفعهم بعيدا عن الديماغوجية، مما يقوض النظام الديمقراطي نفسه الذي نصبت نفسها لتنقذه. واعتقد أن هذا ما حدث بالفعل؛ فقد ساعدت وسائل الإعلام القومية ترامب في شق طريقه إلى الانتخابات التمهيدية في الحزب «الجمهوري» في السباق الرئاسي عام 2016 بما قدمته له من زخم دائم لشخصية شهيرة على حساب المرشحين الآخرين.

لكن بعد انتصاره الصادم في نوفمبر، وما تلا ذلك، تبنى جانب كبير من الصحافة النهج الذي مازال نقاد الصحافة يحثون عليه باعتباره الطريقة الوحيدة لوقف ترامب، وهو تنصيب الصحافة نفسها حارسا للديمقراطية وقاضيا أخلاقيا وليس محكما محايدا، وأصرت على جعل صفات ترامب غير الاعتيادية محور قصة رئاسته. لقد عالجت عقلية الطوارئ هذه صفات ترامب السلبية بقدر كبير من الصحافة غير الجيدة، للأسف. وأشاعت خوفا واسع النطاق اتضح في انتخابات 2020 من أي نوع من التغطية مما أعطى دعما كبيرا لتوجه ترامب.

صحيح أن المرء قد يجادل بأن هذه العقلية حققت نجاحاً عمليا بخسارة ترامب انتخابات 2020. لكنه لم يخسر بشكل كاسح بل فاز بأصوات في مناطق لم تتوقعها المؤسسة السياسية، واستطاع تحويل كراهية الإعلام إلى ميزة له في مسعاه ليسيطر على حزبه حتى بعد هزيمته.

وثقة الجمهور في الصحافة القومية تراجعت أثناء فترة ترامب، وأصبحت هذه الثقة أكثر استقطابا، مع احتفاظ «الديمقراطيين» والمستقلين أصحاب الميول الديمقراطية بدرجة ما من الثقة في وسائل الإعلام، بينما لم يحتفظ «الجمهوريون» والمستقلون أصحاب الميول «الجمهورية» بمثل هذه الثقة. وهذا يشير إلى المشكلة الأساسية في الفكرة القائلة بأن تقليص حيادية الإعلام قليلا مع القليل من قرع أجراس الخطر سيضع ترامب في مكانه الحقيقي.

لكن، لا يمكن قمع الصعود الشعبي بمجرد حشد دعم المؤسسة إذا كانت الريبة في المؤسسة هي في حد ذاتها ما يولد الدعم للشعبوية في المقام الأول. بل نحتاج إلى كشف حقيقة مخاطر الشعبوية، مع إقناع القراء المتشككين بأن الصحافة يمكن الثقة فيها لأنها تصف الواقع بشكل كامل. ومن الحكمة أن تتمسك الصحافة بمهمتها الأولية وهي الوصف الدقيق للواقع. ومازالت إدارة بايدن والليبرالية بحاجة إلى استراتيجية أفضل للقيام بهذه المهمة إذا كان يحدوهم الأمل في استبقاء تأييد البلاد لهم.

*صحفي أميركي.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»

Canonical URL: https://www.nytimes.com/2021/12/08/opinion/trump-press-restoration.html
     
F