العلمانية والديموقراطية (بتعريفهما الذي نعرفه) مريضتان في بلادهما الأم، ولا أظن أن شفاءهما قريب، فالمتغيرات السكانية هناك تفرض على أهل البلاد الأصليين أن يتنازلوا قليلاً عن المبادئ الرئيسية لـ «ثنائية العلمانية والديموقراطية» من أجل ضمان عدم استخدامها من قبل المهاجرين الجدد بشكل قد يؤثر على طبيعة هذه البلاد ودينها وثقافتها الرئيسية!
كما أن المتغيرات على الخريطة العالمية ما بعد نهاية الحرب الباردة فرضت كذلك على بعض الدول الكبيرة أن تلبس لباس الدين بين وقت وآخر لمعالجة القضايا التي تمس مصالحها الاقتصادية ونفوذها الدولي.
العلمانية في صورتها الأساسية ليست على ما يرام. ولو عاد الرئيس الأميركي الثالث «توماس جيفرسون» إلى الحياة مرة أخرى لأعاد صياغة جملته الشهيرة التي يقول فيها إن الدولة «لا تضع قانوناً يحترم مؤسسة دينية، أو يحظر ممارستها بحرية»، بشكل يتناسب مع الواقع الأميركي الجديد الذي أصبحت فيه الدولة تتدخل لصياغة مفاهيم الدين لدى العامة!
وما يحصل في البلاد الأم لثنائية العلمانية والديموقراطية، لا يختلف كثيراً عمّا يحصل في بلاد العالم الأخرى، فالدولة الإسلامية (إكس)، التي تقول إنها دولة علمانية، لن تسمح بحال من الأحوال في الظروف التاريخية التي نعيشها في الوقت الحالي، بسيطرة الهوية المسيحية على فضاءاتها العامة! ومثلها ستفعل الدولة (واي) في أقصى الشرق الآسيوي، والدولة (زد) في أميركا الجنوبية.
التعريف المثالي للعلمانية يكون فاعلاً على الأرض عندما يكون النسيج الاجتماعي متشابهاً ومن مرجعية دينية وثقافية واحدة، لكنه يسقط بالتأكيد عندما ينشأ التهديد من الداخل!
العلمانية التي تفصل الدولة عن الدين، أو تفصل الدين عن الدولة، كانت شرطاً لقيام المدنية الحديثة قبل أكثر من مائتي عام. هذا أمر ربما لن يحاججني فيه الكثيرون، لكن استمرار المدنية وازدهارها بحاجة لأن يتغير ويتحدث مفهوم العلمانية بحيث يكون قادراً على النجاة في ظل المتغيرات الكونية التي تزور الأرض ما بين قرن وآخر.
العلمانية الجديدة، أو ما يمكن أن أسميه مفهوم «ما بعد العلمانية» يفترض أن يكون متسقاً مع كل المتغيرات الجديدة، ومنها تعدد القوى الدينية في الدولة الواحدة. ويُفترض به كذلك أن لا يفصل الدين عن الدولة وإنما يجعله جزءاً منها، فالدولة في المفهوم الجديد مكونة من أركان عدة من بينها الدين، الذي هو بدوره مكون من أجزاء عدة (أديان مختلفة) من بينها الجزء الذي يصبغ هوية الدولة.
يُفترض أيضاً في مفهوم «ما بعد العلمانية» أن يُبقي على دينية الدولة (من يستطيع فصل فرنسا عن الكاثوليكية أو ألمانيا عن البروتستانتية أو تركيا عن الإسلام السني)، فيما يلبّس الحكومة نظاماً مدنياً خالصاً (نظام المرور لا يمكن أن يكون إسلامياً أو مسيحياً أو يهودياً، ومثله النظام الصحي، ودوريات كرة القدم..الخ).
دولة بهوية دينية محددة، وحكومة مدنية تدير أركان الدولة التي يمثل الدين أحدها، ومواطن يتعبد ربه بطريقة رأسية لا أفقية، بمعنى أن الدولة ذات الصبغة الدينية المعينة تتعامل مع الأديان الأخرى على أرضها بمبدأ الاحتواء لا التنافس، وتحترم علاقة ساكن الدولة مع ربه على أن يحترم هو علاقات الآخرين مع ربهم. يتحرك في دينه بشكل رأسي ولا يسعى إلى التقاطع الأفقي مع بقية حاملي الأديان الأخرى. هكذا تكون الدولة علمانية وهكذا يكون المواطن علمانياً.
كاتب سعودي