خمسون عاماً مضت على صرح دولة الإمارات العربية المتحدة الشامخ. نهنّئ أنفسنا وقيادتنا الرشيدة بإمارات الفخر والعطاء والبناء والإبداع.
لقد بَنَت دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجاً اتحادياً للحكم فريداً في المنطقة العربية التي مزقتها الحروب الأهلية، والانقسامات السياسية، والتصدعات الداخلية وضعف التوافقات الوطنية، واتّساع الخلافات العربية.
كانت الحِقبة العربية التي انبثقَ فيها الاتحاد الإماراتيّ مليئةً بالشكوك والريبة والهواجس من أيّ مبادرة للوحدة وتكامل الكيانات السياسية.
لعلَّ قصة نجاح اتحاد دولة الإمارات، بإماراته السبع، كانت درساً مستقىً من أسباب فشل التجارب الوحدوية العربية، حيث بدتْ نزعة الاستفراد لدى طرف، أو أكثر، في هذه التجارب سبباً رئيسياً في تقويضها بسرعة، خصوصاً مع اتّساع عامل فقدان الثقة بين أطراف التجارب تلك، وعدم قناعتهم الكافية بأن فوائد وثمار الاتحاد تفوق ما قبله، وهذا ما تجنبته الإمارات، فبنت اتحاداً يرى جميع أبنائه وقياداته أن قوتهم في قوة هذا الاتحاد وتماسكه وازدهاره.


الإجماع الوطني على شخصية الشيخ زايد


ومن العوامل التي مكّنت الاتحاد الإماراتيّ من تعزيز مكتسباته مع مرور الأعوام عنصرُ «التراكمية»، وهو وثيق الصلة بعنصر «القيادة». فقد كان استمرار قيادة المُؤسِّس المغفور، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، للدولة لنحو أربعة عقود، عاملاً أساسياً في إثراء التجربة الإماراتية، بجميع جوانبها، وعدم انقطاع مراحل نضجها ونموها وتماسكها واستقرارها. لقد تركت شخصية الشيخ المؤسس زايد بن سلطان وأسلوب قيادته تأثيراً عميقاً في المجتمع الإماراتيّ. إنَّ حالة الإجماع الإماراتيّ على الشيخ زايد، رحمه الله، والإنجاز التنموي والوحدويّ الذي كان القائد المؤسس عاملاً أساسياً في بنائه، جعله يَحظى بمكانة مركزية في تشكيل الهُوية الإماراتية كـ«أب للأمة» التي انتقلت من إمارات متفرقة غير موحدة تعيش على الصيد واستخراج اللؤلؤ وبعض صنوف التجارة والأعمال إلى دولة تنموية مميزة ومتحدة. وبعد عقود، جاء الجيل الجديد الحاكم في أبوظبي ودبي والشارقة وعجمان والفجيرة ورأس الخيمة وأم القيوين معتزاً بإرث الآباء المؤسسين، وبانياً عليه، وليس منقطعاً عنه، ما رسّخ النهضة الإماراتية المتراكمة، وعرّضها لعناصر التطوير والتجديد، في سياق معادلة سلسة من «الاحتفاظ والتجاوز».
ومع الأزمات العربية، كانت تجربة الإمارات وجاذبيتها حاضرة في محاولة الاقتفاء والاقتداء.

وفي منطقةٍ تشهد استعصاءات عنيدة في تقديم مُقاربات متكاملة أو نماذج غنية وناضجة لمعالجة أزمات الهُوية وبناء الدولة الوطنية وتوجيه الموارد نحو توسيع الإجْماعات الوطنية وتحقيق الاستقرار والتنمية... لربما تبدو الفيدرالية الإماراتية نموذجاً عربيّاً يُمكن تمثّله في الانتقال السياسيّ في بلدان النزاعات في المنطقة العربية. كما أنَّ النموذج التنمويّ الإماراتيّ رصيدٌ أساسيّ في القوّة الناعمة الإماراتية، ويشكّل عنصراً جاذباً للشباب العربيّ، ومحفّزاً قوياً على تبنِّي التنمية والسلام والتعايش بدلاً من الحروب والصراعات والكراهية ومعاندة الواقع.
الإمارات بَنَت تجربة تنموية جاذبة، صارت قصّة نجاح عربية وإسلامية. لقد قطعت، في زمن قصير، شوطاً مُهِمّاً في الرفاه الاجتماعي والحوكمة والإدارة الحكومية وتطوير الخدمات وتحديث الاقتصاد، وفي الإنتاجية وتمكين المرأة والمساواة الجِندرية، وفي التأسيس لسياسة خارجية ديناميكية.
وكما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة  رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، إنَّ «رفع مستويات التنافسية في مختلف القطاعات والمجالات يأتي في قلب استراتيجيات التنمية التي تتبنَّاها دولة الإمارات، بهدف تعزيز أداء المنظومة الحكومية بمختلف قطاعاتها، وتطوير بيئة داعمة لتحسين مستويات وجودة الحياة للمواطنين والمقيمين وكل من يعيش على أرض الإمارات».
في تقدير دولة الإمارات، أن عناصر النجاح المتعددة في تجربتها التنموية تُمثّل «أصولاً» غنية، يمكن استثمارها لصالح الخير العام في الإقليم، والنسج على مِنوالها ونقدها وتطويرها والبناء عليها وسدّ نواقصها. ويمكن للمراقب ملاحظة العديد من التصريحات الرسمية الإماراتية التي تركّز على «البعد العُروبيّ» الراسخ في توجهات دولة الإمارات وإنجازاتها ومواقفها.
ولعل ابتعاد السياسات العامة الإماراتية، منذ عهد مؤسس الدولة الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، عن العسكرة والأدلجة والشعارات، برغم توافرها المكثّف في أرجاء المنطقة، كان من مقوّمات النجاح وتمكين النهج الواقعي، في السياستين الداخلية والخارجية، من دون أن يمنع هذا من اتساع الطموح الإماراتي، والعزيمة التي جعلت الأحلام واقعاً يمشي على الأرض.
ومن الجوانب المُتعلقة بدور القيادة في بناء نموذج الإمارات، أن القيادة القويّة التي مارسها مُؤسِّس دولة الإمارات الشيخ زايد بن سلطان كانت عاملاً مركزياً في رحلة التحديث والتنمية وترسيخ الاستقرار السياسيّ والأمنيّ، ومواجهة التحدّيات الداخلية التي صاحبت تَبَلُور الحكم الاتحاديّ في الإمارات، وتوحيد القوات المسلحة الإماراتية (في 6 مايو 1976)، إلى جانب التحدّيات الخارجية التي ابتدأت مع بزوغ الاتحاد، بإقدام إيران على احتلال الجُزُر الإماراتية الثلاث «طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى».
لقد عزَّزت المرونة تماسك البناء الداخليّ، وصون المكتسبات، ومنحت الدولة إمكانية أكبر للتعاطي مع التحدّيات بكفاءة واقتدار.


القيادة لدى الجيل الثاني


أما دور القيادة لدى الجيل الثاني الذي تصدَّر قيادة الإمارات بعد وفاة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان عام 2004 والشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم عام 2006، فاتَّضح على مستويين، داخليّ وخارجيّ:
فعلى المستوى الداخليّ، تعزَّزت السياسات الحكومية باتّجاه تنويع مصادر الدخل والتخفيف التدريجيّ من الاعتماد على النفط، وتوظيف الثروة النفطية في دعم وتقوية صناديق الثروة السيادية، وحِيازة أصول أجنبية في الخارج، وتحديث القطاعات الحكومية، وتعميق التوجُّه نحو الرقمنة، والبيئة الجاذبة للتجارة والاستثمار والإقامة والعمل، وتطوير قطاعات الترفيه والسياحة والطيران وصناعة المؤتمرات واحتضان الفاعليات العالمية الكبرى، وآخرها «إكسبو دبي 2020»، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتوسيع مجالات العمل التطوعيّ، إلى جانب التركيز على ثقافة العمل والإنتاجية والابتكار والتنافسية، بما يُعيد تعريف العقد الاجتماعي، من خلال أخذ مسافة متنامية وتدريجية من نموذج الدولة الريعية. ولعل في ذلك محاولة لتمثُّل ما تحدث عنه الفيلسوف الألماني ماكس فيبر في كتاب الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، لجهة أنَّ التفاني في العمل الجاد هو قنطرة الارتقاء الإنسانيّ والاجتماعيّ وتحقيق «الخَيْريّة» والمواطَنة الصالحة.
أما على المستوى الخارجيّ، فقد جرى نقل السياسة الخارجية الإماراتية إلى مستوى آخر، يتم فيه استخدام استراتيجيات «القوة الذكية»، بِدَمْجِ القوتين الناعمة والصلبة في الأدوار الإقليمية الإماراتية، وتأثير ذلك في تصاعد مكانة الإمارات وتأثيرها النسبيّ، الناشئ عن تنامي عناصر قوّتها، الاقتصادية والعسكرية وشبكة التحالفات الاستراتيجية، إقليمياً ودولياً، وتنويع الشراكات مع الدول العظمى، وكذلك الاقتصادات الصاعدة في آسيا وأميركا اللاتينية.
وكما أكّد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، فإنّ «المبادئ العشرة لدولة الإمارات خلال الخمسين عاماً القادمة... تشكل مرجعاً لجميع مؤسساتها لتعزيز أركان الاتحاد وبناء اقتصاد مستدام، وتسخير جميع الموارد لمجتمع أكثر ازدهاراً، وتطوير علاقات إقليمية ودولية لتحقيق مصالح الدولة العليا ودعم أسس السلام والاستقرار في العالم».
ويمكن للمراقب أنْ يلحظ أنَّ حركة دولة الإمارات على المستوى الإقليميّ تتركَّز على مواجهة العوامل المُزِعزعة للاستقرار في المنطقة، والتي ترى فيها الإمارات تهديداً لمصالحها الاستراتيجية، ولنموذجها المرتكز إلى أولوية التنمية وتحسين الاقتصاد وتمكين الوسطية والاعتدال.


الإمارات واحتضان التعايش وتعزيز التسامح 

بَنَتْ دولة الإمارات العربية المتحدة تجربة جاذبة في التعايش والتسامح، والمؤشر الواضح على ذلك إقامة الملايين على أرضها من عشرات الجنسيات والثقافات والأديان المختلفة بسلام وأمان، وفي بيئةِ عملٍ ديناميكية حديثة تُحفِّز على الإبداع والتطوُّر المستمرّ، وبعيدة عن التمييز الدينيّ أو العرقيّ، ولطالما كانت فرصة لشرائح كبيرة من الشباب، وهم نسبة غالبة في المنطقة العربية، لتحقيق طموحاتهم وبناء مستقبلهم وتجاربهم الشخصية.
لقد احتلّتْ الإمارات مكانة رائدة في المنطقة في مجالات ومشاريع الطاقة النووية السلمية والفضاء والطاقة الشمسية والاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي ودبلوماسية اللقاحات، والسبق في الإعلان والالتزام بمبادرات «الحياد الكربوني» (2050)، وتعزيز الاستثمار في أنظمة زراعية ذكية مناخياً أعلن عنها الرئيس الأميركي جو بايدن في مؤتمر غلاسكو بالشراكة مع دولة الإمارات، بالإضافة أيضاً إلى مبادرات أعلنتها الإمارات بخصوص التسامح الديني وتعزيز التعايش والتنوع.
كما أعلنت الإمارات، مؤخراً، أنه تم تقديم «ما مجموعه 21.802.032 جرعة من اللقاح المضاد لوباء كورونا، «بنسبة 100% لمتلقي الجرعة الأولى، ونسبة 90.18% لمتلقي جرعتين من إجمالي السكان في دولة الإمارات».
إنّ إماراتنا في عامها الخمسين أكثر جمالاً وازدهاراً وشباباً وقوة، وطموحها للخمسين عاماً المقبلة بلا حدود. دام عزّك يا وطن، وكل عام وبلدنا الغالي وقيادتنا الحكيمة بألف خير.


*رئيسة مركز الإمارات للسياسات.