في الذكرى الخمسين لقيام اتحاد الإمارات، تتداعى التجارب والمواقف والمشاهد اليومية التي عشتها منذ العام 1971 وحتى يومنا هذا، وحين أعود بالذاكرة إلى الوراء وأستذكر كيف كانت البدايات، وأشاهد الواقع الذي وصلنا إليه اليوم من مراتب تضعنا في مصاف الدول المتقدمة في العديد من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، تترسخ لديّ القناعة بأن بلادنا حظيت بقيادة استثنائية عرفت كيف تتعامل مع تحديات التأسيس لتُحصّن الاتحاد، وتنطلق بنا إلى آفاق من العمل والإنجاز في نموذج عز نظيره في التاريخ الحديث.
ولأن رد الفضل إلى أهله صفة متجذرة من صفات مجتمع الإمارات، أردت من خلال هذه المتابعة أن أنقل بعض الانطباعات الشخصية والتجارب العملية حول صفات وسجايا قيادة دولة الإمارات، هذه القيادة التي كانت وما زالت «عمود البيت» وسراجه الذي نستنير به، ونقتبس منه معاني الانتماء والوفاء والخصال الحميدة التي تمثل ركناً أساسياً من أركان منظومتنا القِيَمية والتي رسخها وعززها قادتنا، إذ لم تكُن قراراتنا وتوجهاتنا يوماً إلا منسجمة مع قيمنا ومبادئنا وموروثنا المحلي.
أعتبر نفسي من المحظوظين الذين عملوا عن قرب مع قيادتنا الرشيدة، وسأبقى أنهل من حكمتها، وكيفية تعاملها مع الشأن العام بإنسانية الوالد وعطفه واهتمام الأخ الكبير وحنكة القائد وذكائه، فما يميز قيادتنا أنها تنطلق من قاعدة أخلاقية وقِيَمية ما زالت تحرص عليها في كافة أوجه العمل رغم الصعوبات التي تواجه هذا الأمر، في ظل المتغيرات السريعة والطارئة التي تجتاح العديد من الدول والمجتمعات ومنها دولة الإمارات ومجتمعها.


صدقية وصفاء القيم

في عام 1968 أُجري إحصاء غير دقيق لتعداد السكان في الإمارات السبع، والذي أظهر أن عدد السكان 180 ألف نسمة، وقد وصلنا اليوم إلى نحو 10 ملايين نسمة، ورغم هذا النمو السكاني الهائل إلا أن مجتمعنا ما زال حريصاً على صدقية وصفاء وقيم ذلك المجتمع الصغير في ستينيات القرن الماضي، مع معرفتنا وقناعتنا بأن التحديث والتطور أمر حتمي وطبيعة بشرية، ففي العديد من لقاءاتي أستذكر نشأتي بمدينة دبي في الستينيات، وهي الميناء المنفتح على العالم باختلاف أجناسه وأعراقه، ولطالما شددت خلال أحاديثي أن انفتاح الإمارات وقيمها ما هو إلا تعبير صادق عن جذور وطبيعة مجتمعها، فعلى سبيل المثال فإن دبي بموروثها هي ذاتها مدينة اليوم إلا أنها توسعت لتصبح مدينة عالمية.


صفات القيادة وعوامل النجاح

ولا شك أننا ونحن نحتفل بالذكرى الخمسين لاتحادنا، ندرك أن القائد وصفات القيادة كانت وستبقى أحد عوامل النجاح الرئيسية، فبدون الحكمة والحزم والرؤية الاستشرافية، ما كان ليتحقق كل هذا الإنجاز والتطور الذي نعيشه، فالقادة التاريخيون للإمارات، وعلى رأسهم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، وإخوانه الحكام المؤسسون، لعبوا الدور الأساس في جمع الشمل وتحصين الاتحاد وبناء النموذج الناجح، عبر منهج واضح ما زال ينير الطريق ويمثل نبراساً نهتدي به ونعمل به في كافة شؤوننا وأحوالنا.
وأذكر في بدايات السبعينيات عندما كنت أزور أبوظبي سالكاً الطريق الذي يربط دبي بأبوظبي، والذي لا علاقة له بما هو موجود الآن من طرق ذات مواصفات دولية تربط بين المدن، وأثناء الرحلة أسمع من جدي المرحوم علي بن عبدالله قرقاش قصصاً عن المغفور له الشيخ زايد، والذي تعرف عليه في بداية الخمسينيات حين كان حاكماً للعين، وكيف كان صاحب بصيرة نافذة وطموح غير محدود، تزداد لدي القناعة بأن كل ما حققناه ما هو إلا ثمرة من ثمار شجرة مباركة هي قيادتنا الرشيدة.
وكانت زيارات جدي إلى أبوظبي لتفقد عمارة كان يقوم ببنائها في شارع النجدة بالعاصمة، وقد ضمت بعد ذلك مطابع بن دسمال التي كانت تطبع جريدة الاتحاد، وفي هذه الزيارات كنت أستمع لجدي والمرحوم أحمد بن دسمال وهما يشربان «استكانة شاي سليماني» ويتحدثان بكل تفاؤل وإشادة عن المغفور له الشيخ زايد الرجل العظيم الذي حمل أمانة المسؤولية، وكنت وأنا أسمع هذا الحديث أرى العاصمة تنهض من خلال المباني والبنية التحتية وورشة العمل التي تغطي كافة مناطقها، حيث تم توزيع الأراضي على أهالي أبوظبي ومواطنين من الإمارات الأخرى لإعمارها وتشييدها لتصبح أحد أجمل عواصم العالم.
القيادة فن وحكمة، وفوق ذلك استخلاص للدروس وحُسن توجيه للسفينة، وهذا ما أتقنه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، وإخوانه حكام الإمارات.


الوداع المؤلم
وأنتقل في هذا الجانب إلى تجربتي الشخصية، وأذكر ذلك الوداع المؤثر والمؤلم عام 2004، عندما رحل الوالد المؤسس والقائد الحكيم، فقد كانت اتصالاتي بسمو الشيخ ذياب بن زايد وسمو الشيخ عبدالله بن زايد مستمرة نتحدث فيها مثل أخوة فقدوا أباً وقائداً وموجهاً، فرحيل الشيخ زايد اختلطت فيه المشاعر الشخصية بالوطنية والعائلية في كل بيت إماراتي، فرحمه الله كان يعيش في كل مفردة من مفردات حياتنا، وكل تفصيل من تفاصيل مجتمعنا ودولتنا.
وأذكر أحد مهماتي الأولى بمعية صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله، في اجتماعات مجلس التعاون الخليجي، وقد كنت في الكواليس التي عادة ما تسبق الاجتماعات أتابع وأعود إلى سموه لإحاطته بالمستجدات وأستمع إلى توجيهاته، ويبدو أنه سُر من هذا الوزير الجديد الذي لا يعرفه جيداً، وسُعدت بعد انتهاء المهمة حين أخبرني أحد أشقاء صاحب السمو الشيخ خليفة بإشادته بي وبأدائي، فهذا وسام أعتز به وأفتخر، فعندما تأتي الإشادة من قائد حكيم وقور ورصين، فهي إشادة ذات قيمة لا تضاهيها قيمة أخرى.


اهتمام كبير بالتجربة الانتخابية
وفي مرحلة الإعداد لانتخابات المجلس الوطني الاتحادي في العام 2006 قمت بزيارة أصحاب السمو حكام الإمارات لإحاطتهم بترتيبات أول انتخابات للمجلس، ولمست خلال اللقاءات مدى اهتمامهم الكبير بالتجربة الانتخابية، وتطوير المؤسسات التي تعتبر عماد هذا الاتحاد. 
وفي مجلس الوزراء الذي تشرفت أنا وزملائي بالعمل ضمن فريق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، فقد كان سموه استراتيجياً من الطراز الرفيع يرأس مجلس الوزراء بكل أريحية يستمع ولا يقاطع، لا يحب الإطالة ويعتمد على فريق كفؤ على رأسه كل من سمو الشيخ سيف بن زايد وسمو الشيخ منصور بن زايد والأخ محمد القرقاوي.
وما يميز صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد حلمه فلم أراه غاضباً طيلة عقد ونيف إلا مرة واحدة وكان غضبه في محله وبما ينسجم مع شخصيته، ولا شك أن مجلس الوزراء أصبح في عهد سموه معبراً عن هذه الشخصية فلا جدال عقيم، بل تركيز على الأهداف الكبرى، وما التجديد المستمر في الحكومة الاتحادية إلا تعبير جلي عن شخصية سموه الساعية إلى الإنجاز غير المسبوق، فمن يتعامل مع سموه يدرك حجم طموحه الوثاب، ونقاء سريرته وروحه المتسامية وترفعه عن صغائر الأمور وبغضه للقيل والقال.
وكم كنا في وزارة الخارجية فخورين بدعم سموه لنا وتقديره للعديد من الحملات التي قادها سمو الشيخ عبدالله بن زايد بكل كفاءة واقتدار، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر حملة استضافة مقر الوكالة الدولية للطاقة المتجددة «آيرينا»، وحملة إعفاء الإماراتيين من تأشيرة الدخول إلى دول منطقة (الشنغن)، وحملة استضافة معرض إكسبو وحملة تعزيز مكانة وقوة الجواز الإماراتي، وغيرها العديد من المشاريع والبرامج.


همة محمد بن زايد

وأعتز بصداقتي عبر السنوات مع سمو الشيخ عبدالله بن زايد الأخ الفاضل والوزير الكفؤ، كما أعتز أيضاً بسجل العمل مع زملائي في وزارة الخارجية على مدى أكثر من أربعة عشر عاماً، ولا يسعني هنا إلا القول بأن كلماتي عاجزة عن التعبير عن مدى التقدير الذي حظيت به عند انتهاء عملي في وزارة الخارجية. 
وأذكر لقائي الأول بصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد في نهاية السبعينيات عن طريق شقيقي الذي كان ضابطاً في الجيش، ومنذ تلك البدايات برز سموه شاباً طموحاً لعب دوراً رئيسياً في تحديث قواتنا المسلحة، واهتم بكل التفاصيل لينتقل بجيش الإمارات إلى مرتبة متقدمة ومن أكثر جيوش المنطقة العربية كفاءة وقدرة.
وخلال تدريسي في جامعة الإمارات العربية المتحدة، وعند تأسيس الصديق الدكتور جمال سند السويدي مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية كانت هناك فرص عديدة للتعرف على نشاط وهمة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، وفي كل فرصة يزداد التقدير لهذه الشخصية لما تمتلكه من سجايا وصفات إنسانية وقيادية.
وبعد العام 2006 ومن خلال العمل الحكومي، ازداد احتكاكي بصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، فوجدت فيه صفات القيادة والكاريزما الشبيهة بما كنت أسمعه من جدي علي بن عبدالله عن الشيخ زايد رحمه الله، إذ إن سموه يجمع بين احترام كبير للقيم والموروث المحلي وبين انفتاح على العالم وطموح عصري يريده لوطنه.
ورغم المسؤوليات الكبرى والحمل الثقيل إلا أن ما يميز صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد متابعته المستمرة لكل التفاصيل، فعبر سنوات عملي الطويلة كان الوصول إلى سموه عندما يتطلب الأمر أسهل مما يتوقع الكثيرون، فهو سريع الرد على الهاتف يستمع ويسأل ويتابع ويوجه بذكاء المُتمكن وخبرة القائد وحنكة الشيوخ، فلم نجده يوماً بعيداً عنا في مختلف الظروف ورغم كل المشاغل والتحديات، وأستذكر هنا تأكيد سموه بأن رصيد الإمارات هو مصداقيتها وشفافيتها، وتوجيهه لنا بعدم إعطاء الوعود إلا إذا كُنا متأكدين من القدرة على الوفاء، كما شدني حرص سموه الدائم على سيادة الإمارات وكرامتها، فلا تنازل في هذا الجانب من قائد تشرب الوطنية من والده وإرث أسرته الكريمة.
ولقد وجدت في جوهر سموه نقاء النفس والوفاء وتركيز العسكري على المهمة دون أن ينشغل برفاه الحياة، فرغم أنه تربى في عز والده إلا أنه لم يكُن يوماً مأخوذاً بالجوانب المادية وحياة الرفاهية والمقتنيات الثمينة والفريدة، فاهتمامه منصب على أمر واحد وهو المستقبل الذي يريده للإمارات وسمعتها ومكانتها بين الدول. 

 

المواطن محور الاهتمام

وهنا أستذكر اهتمام ذلك المسؤول الأجنبي وأنا أخبره عن تجربتي مع قيادتنا، وكيف أن أغلب حديث شيوخنا محوره المواطن وتوفير الحياة الكريمة وجودة الخدمات المقدمة له وتطوير قطاعات الصحة والتعليم والإسكان والبنية التحتية، فهو حديث في معظمه عن المواطن والبلد بعيداً عن التنظير الأيديولوجي والشعارات التي لا تخدم واقع الإنسان ورفاهه وتحسين حياته. 
قيادة الإمارات قيادة حكيمة قادت البلاد منذ الأيام الأولى وتحدياتها، وانتقلت بها إلى مرحلة الرخاء والتقدم الذي نشهده، وما يميز قيادتنا أن نهجها مزيج فريد من البُعد الإنساني والقيم النبيلة والحزم والصرامة عندما يتطلب الموقف والانفتاح على العالم واستشراف ما سيكون عليه المستقبل، ومتابعة حثيثة لتفاصيل العمل العام، وكل هذه العناصر تسير في إطار من الشفافية والمصداقية وتقبُل الجديد دون إفراط أو تفريط.


نموذج للأجيال المقبلة

هذه الصفات التي أوردتها غيض من فيض، ولا تعدو كونها خواطر وملاحظات شخصية لا تفي قيادتنا حقها، وتأتي في سياق احتفالاتنا بالذكرى الخمسين لاتحاد دولة الإمارات، واستخلاص للدروس والعبر من واقع مررت به خلال السنوات الماضية وتجارب شخصية عايشتها، فالقناعة راسخة والإيمان عميق بأن ما ننعم به من استقرار وازدهار ما كان ليصل إلى هذه الدرجة المتقدمة لولا القيادة الحكيمة والرشيدة التي حبانا بها الله. 
وأملنا بالجيل الجديد من أبناء الأسر الحاكمة وثقتنا كبيرة باستمرارهم بالسير على خُطى أسلافهم ومنهج صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان حفظه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، والذين قدموا لنا أسلوباً حكيماً يمثل نموذجاً للأجيال المقبلة، ونهجاً يستند إلى قيم هذا المجتمع التي نجلها ونعزها والانفتاح على العالم، فقد تعلمنا منهم درساً واقعياً يجمع بين الاستشارة وحسن الاستماع والشفافية وتغليب المصلحة العامة والحزم في الوقت المناسب، فالقائد كما علمتنا قيادتنا مكانه في المقدمة، وهو الذي في أول الصف، يمتلك شجاعة الموقف والرأي واتخاذ القرار الصائب، وتحدي الظروف وتطويعها لخلق الفرص والتقدم بشعبه إلى مراحل جديدة من التقدم والتطور.

معالي الدكتور أنور محمد قرقاش*
*المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس الدولة