وصل النقاش مع الولايات المتحدة بشأن انسحابها من أفغانستان إلى الجبهة الأخلاقية! منهم مَن قال إنّ الانسحاب كان خطأً استراتيجياً، ومنهم مَن قال إنه وصل إلى حالة الخذلان الأخلاقي! الاستراتيجيون قالوا: الأميركيون أحدثوا فراغاً سيتنافس على ملئه الصينيون والروس، ومن ورائهم الأتراك والإيرانيون. وهذا ليس في مصلحة أميركا وحلفائها الغربيين، ولا في مصلحة الهند، وربما دول آسيا الوسطى والقوقاز. وهذا فضلاً على إرهاق الغربيين بالمزيد من المهاجرين.  

  أما الأخلاقيون فيذهبون إلى أنّ «الخروج» من الاحتلال هو أمر إيجابي. لكنه انطوى على خذلانٍ للشعب الأفغاني. فرغم الإنفاق الهائل، فإنه لم تنشأ مؤسسات للدولة الأفغانية تقوم بتلبية الحاجات الأساسية، ولا استُحدث جيشٌ وشرطةٌ حقيقيان، ولا كان هناك حرصٌ في التفاوض بحيث تكون هناك ضمانات للناس (وبخاصة مَن تعاونوا مع الأميركيين والغربيين الآخرين) من جهة، وما اشتُرطت أمور تؤدي إلى أمن الشعب وأمانه من جهة ثانية.

وهكذا فإنّ الأميركيين كما شملوا بسُخطهم عندما دخلوا إلى أفغانستان عام 2001 الكثير من فئات الشعب الأفغاني (وليس «القاعدة» وحلفائها فقط)، فإنهم في خروجهم ظلموا الكثيرين أيضاً وما استفاد من ذاك الخروج إلا أعداءهم السابقين. ثم إنه بقي في المدن حوالى نصف المليون من «المتعاونين» الذين لا يدري أحدٌ بمصيرهم! وهذه أمورٌ تدخل كلها -وفيما وراء السياسة- في الشأن الأخلاقي العام، والذي رفع الأميركيون والغربيون من منزلته في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (عام 1949)، وكان «التفوق الأخلاقي» رصيدهم البارز في الحرب الباردة الطويلة!     تعاظم في العقود الأخيرة دور واستخدام المقاربات الأخلاقية في مجالات التصدي للمشكلات العالمية الكبرى أو المستعصية.

والواقع أنّ اللجوء إلى هذه المقاربة جاء من جانب الفلاسفة والقادة الدينيين، ثم صار عاماً فدخل فيه قادة سياسيون عالميون، وبخاصةٍ المعروفين بالحساسية الأخلاقية العالية. ويرجع ذلك إلى تعطل المؤسسات الدولية أو قصورها، وتعذُّر إيجاد حلول لقضايا النزاعات والحروب المتكاثرة. إنما الأعظم، والذي يصل إلى حدود الأزمة الأخلاقية عدم الاهتمام من الكبار بالتغير المناخي ومشكلات البيئة والمجاعات والأوبئة، والإقبال والتخاصم على تناهب الثروات الطبيعية وليس على الأرض فقط، بل وفي الفضاء أيضاً.  

  لقد حلّت محلّ ثقافة الحضارة التي كان المستعمرون يدعون أنهم جاؤوا لنشرها، ثقافةُ الحرية وحقوق الإنسان. لكنّ النظام الدولي ما استطاع إحقاقها، لا خلال الحرب الباردة ولا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1990. ولأنه أُضيفت للنزاعات السياسية والعسكرية، والتي وصلت إلى أوروبا، النزاعات الدينية الناجمة عن «عودة الدين»، فقد تصاعدت الدعوات من كل اتجاه لتجديد النظام الدولي، أو الحوار بين الديانات والاتجاهات الفكرية والثقافية، بل وأطراف النظام الدولي. ووجهة النظر هذه تعتبر «الحوارَ» مبدأً أخلاقياً، باعتبار أنه بغضّ النظر عن القوة أو الضعف فإنه حتى في المشكلات شبه المستعصية، يُستحسنُ أن تلجأ أطراف النزاع إلى الحوار بديلاً عن القوة والابتزاز أو التهديد. وفي هذا المنحى فإنه وبالحوار يمكن الحديث عن السلام والعدالة والتضامن باعتبارها المظلة لعيشٍ إنساني مشترك ومستقر وآمِن.    

هل تتم محاكمة مواقف الأميركيين وقراراتهم إلى القانون الدولي أم إلى أخلاق الخير والسلام والحرية؟ جون راولز (صاحب كتاب «نظرية العدالة»، 1971) ذكر في كتابه الآخر («قانون الأُمم») أنّ الدول معنيةٌ بالقانون والعدالة وليس بنظرية الخير! بيد أنّ هانس كينغ وتشارلز تايلور يذهبان إلى أنّ الإلزام الأخلاقي هو من الصلابة بحيث لا يقل عن الإلزام الدولي. إنما يبقى السؤال المطروح دائماً: ما مدى علاقة الأخلاق بالدين؟ وما ضرورة أحدهما للآخر؟

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية