لا يخفى على أي متابع للحراك السياسي العالمي في العقود السبعة الماضية التي تلت الحرب العالمية الثانية، ما تقوم به الدول الغربية الكبرى من عمل دؤوب وإصرار لا يتوقف، لنقل التجربة الديمقراطية (بنسختها الغربية) إلى دول العالم الثاني والثالث. تفعل ذلك لأهداف عدة في تقديري، ليس من بينها بالطبع تشجيع هذه الدول على الانفراد بقرارها السياسي ولا الحفاظ على استقرارها الاقتصادي، ففي العلاقات السياسية بين الدول لا وجود للنوايا الحسنة، وإنما تقوم العلاقات على ميزان المصالح المشتركة والمنافع المتحققة منها.
توهم الحكومات الغربية شعوب دول العالم أن الديمقراطية الشقراء هي نموذج الحكم الوحيد الذي يضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتستخدم من أجل زرع وترسيخ هذه الفكرة في وجدان سكان الكرة الأرضية كل أدوات الإقناع المتاحة مثل أجهزة الإعلام الضخمة ومراكز الفكر الكبيرة ومحاضن الإنتاج الفني والسينمائي العملاقة.
وليت فقط شعوب العالم هي من ينخدع بهذا المفهوم الاتصالي الذي يسير في خط واحد (One way communication). المشكلة أن شعوب الدول الديمقراطية الغربية تخضع أيضاً لهذه الفكرة، وتدافع عنها، ما ينقلها من الحالة السياسية إلى الحالة المدنية الخالصة، وبالتالي ينزع عنها «شكوك النفعية»، ويلبسها حالة «المشاركة الإنسانية».
الدول الغربية الكبرى تسعى من خلال فرض «الحل الديموقراطي» على دول العالم إلى هدفين رئيسيين بالإضافة لأهداف أخرى صغيرة. تسعى أولاً لخلق حدائق خلفية مزروعة بدول تابعة تدعم المواقف الغربية في صراعاتها الكونية، وتريد ثانياً أن تظل أسواق هذه الدول مفتوحة على الدوام للمنتجات الغربية. أما في حال فشل عملية «الدمقرطة»، فسيتحقق هدف رئيس ثالث، وهو إشغال هذه الدول في دوامة البحث عن نفسها، ما يجعلها في حاجة دائمة لسلاح الديموقراطيات الغربية.
والمشكلة أن هناك من يصدق هذه «المقاربات النفعية» ويتبناها ويعمل عن تطبيقها في بلاده برغم عدم الحاجة لها أو عدم الاستعداد لها. وما الحراك الذي يحدث في ليبيا هذه الأيام إلا مثال مكتمل الأركان لما أتحدث عنه، فبرغم عدم وجود الأركان الأساسية للديموقراطية على الأرض، إلا أن الليبيين يستعدون للدخول في احتفالية ديمقراطية في ديسمبر المقبل برعاية غربية مريبة!! يريدون أن يستجلبوا الديمقراطية الشقراء كما هي، ويزرعوها في بيئة غبر صالحة لها، في الوقت الحالي على الأقل!
الديمقراطية في مفهومها الوجودي كما أراها، هي غاية في نفسها. فهي نتيجة لمجموعة من العوامل المجتمعية والثقافية مثل الفردانية والليبرالية والعلمانية والتعليم والثروة وغيرها. وأما في مفهومها العملي فهي «أداة حكم» و«وسيلة إدارة» للوصول إلى «الحكم الرشيد». هي جسر يأخذ المواطن والحاكم ويوصلهما إلى منطقة التفاهم المطلق.
هي أيضاً في مفهومها الشعبي عملية اجتماعية يتم بموجبها ضمان عدم تعطيل السلطة (أي سلطة) لمصالح الناس، لأن الناس هم من يمثلون أنفسهم في السلطة.
وبالنظر إلى هذه التعاريف الثلاثة للديموقراطية، تبرز لنا الأسئلة المهمة التالية: هل المفهوم الأول موجود في ليبيا؟ وهل المفهوم الثالث موجود في أميركا اليوم؟! هل يستطيع الفرد الليبي المكبل بالجماعة، أن يشكل حجر الزاوية (الفرداني) لديموقراطية حديثة؟ وهل يستطيع المجموع الأميركي حماية مصالحة في ظل تنافس حزبين فقط على الفوز بالحكم؟! وأما المفهوم الثاني، فيكفي أن نقوم بنظرة دائرية حول مركز أجسادنا لنعرف أن الديمقراطية الغربية ليست هي الشرط الوحيد لوجود «الحكم الرشيد».


كاتب سعودي