طلب مني العديد من القراء الأفاضل الخوض أكثر في سر نجاح التجربة المغربية في المجال السياسي العام، النجاح الذي مكَّن اليوم من إفراز خريطة سياسية جديدة، أعطت الصدارة لأحزاب «التجمع الوطني للأحرار» و«الأصالة والمعاصرة» و«الاستقلال»، فيما تراجع «حزب العدالة والتنمية» (ذو المرجعية الإسلامية). 
- لقد لاحظنا في الانتخابات المغربية الأخيرة رغبة المواطنين المغاربة في التغيير انطلاقاً من صناديق الاقتراع لا غير، وهي الطريقة الديمقراطية التي تعبّر عن حياة سياسية طبيعية ومنتجة وعن مسار سياسي تترسخ جذوره مع مرور الوقت، وهو ما سنتطرق إليه هنا. 
- ولاحظنا أيضاً أن المغاربة قاموا بتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، إذ عاقبوا «حزب العدالة والتنمية» عقاباً تاريخياً، فأفهموا الخاص والعام أن العقلانية السياسية تقتضي تجاوز مصدر التمثلات والمعايير والرغائب التي هي بمثابة المشترك الأكبر بين الناس والطبقات والأجيال، إلى سياسات عمومية وبرامج عقلانية لا تهدف فقط إلى إشباع الحاجات الروحية والاجتماعية لدى الإنسان، ولكن أيضاً إلى إشباع حاجاته المعيشية والتنموية، وهذا هو منطق السياسة الحديثة الذي يخدم قضية التنمية والديمقراطية والمواطنة الكاملة.. ومن هنا كان التصويت العقابي، وهو أحد أنواع المحاسبة السياسية التي تدرس في مجال العلوم السياسية. 
- كما لا يجب أن ننسى أن هناك عوامل أخرى ساهمت في الوصول إلى مثل هذه النتائج، لعل أبرزها التغيير على مستوى قيادة العديد الأحزاب، مما أعطى نفَساً ودينامية جديدين في علاقة هذه الأحزاب بالمواطنين، وداخل الهياكل التنظيمية للأحزاب ذاتها. كما أنه رغم تداعيات جائحة كورونا، فإن العديد من الأحزاب نجحت في حملتها التواصلية مع شرائح المجتمع المغربي المختلفة موصلةً بذلك برامجَها التنموية والسياسية والمجتمعية.. فانطلقت الحملة الانتخابية للأحزاب متبوعةً بالاقتراع انطلاقاً من الواقع السياسي وليس من الخيال السياسي.
وبالرجوع إلى التساؤل الذي طرحناه في بداية المقالة، يمكن فهم ما يجري سياسياً في المغرب، بالاستناد إلى أربع خاصيات تسم التجربة المغربية، نذكرها هنا بإيجاز: 
- المغرب هو الدولة المغاربية الوحيدة التي منعت منذ استقلالها نظام الحزب الواحد، كما أن المؤسسة الملكية امتنعت عن الانتماء إلى أي حزب سياسي، وهذان العاملان يعطيان للملك شرعية تاريخانية ومؤسساتية تنزهه عن التحزبات التي يمكن أن تعرفها الأمة/ الجماعة الوطنية. ونعلم أن مثل هذه الشرعية كانت غائبةً في تونس والجزائر عند الاستقلال، فاستندت شرعية النظام إلى الحزب الحاكم (تونس) أو إلى الجيش (الجزائر).
- صحيح أن التعدد السياسي منذ استقلال المغرب كان تحت المراقبة، لكن محددات السياسة في المغرب سمحت للمعارضة بالعمل السياسي الجريء حيث توالت المطالب بالإصلاحات الدستورية والسياسية عبر مذكرات رفعت إلى المؤسسة الملكية في أعوام 1991 و1992 و1996 صاحبتها تعديلات دستورية لأعوام 1992 و1996، فاستطاع المغرب أن يصل إلى المعادلة الإيجابية، وهذا ما سمح بوصول المعارضة التاريخية إلى الوزارة الأولى عام 1998 في شخص الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي، فكانت بدايةً لتجسيد لبنات الميثاق التعاقدي في المغرب. لذا فعملية الإصلاح متجذرة في المغرب.
- ومع الأحداث التي عرفتها العديد من دول المنطقة ابتداء من عام 2011، كانت الأرضية السياسية والمؤسساتية جاهزة للانتقال بالتجربة الدستورية المغربية إلى ما أسميه «دستورانية الجيل الرابع»، حيث انضم المغرب إلى مدرسة الدول الديمقراطية المعروفة بـ«الانتقال الميثاقي»، وهنا يتجلى الحس الاستباقي لدى المؤسسة الملكية.
- ثم هناك مسألة الاعتدال لدى القوى السياسية التي مكنت من توسيع المجال السياسي ومقايضة المشاركة بالاعتدال. فالملكية في المغرب كانت استباقية من حيث استجابتها السريعة للمتطلبات المجتمعية، كما أن الأحزاب السياسية كانت متواجدة، وذاقت حلاوة ومرارة تسيير الشأن العام منذ وقت طويل، فلم يكن هناك فراغ حزبي أو سياسي في يوم من الأيام.
وهناك تراكم التجربة والخبرة لدى مختلف الفاعلين داخل المجال السياسي المغربي العام. وهذا التراكم هو الذي أنجح الميثاق السياسي المغربي في إطار تسوية ذكية تجنِّب البلاد والعباد ويلات الفتن وسنوات المجهول واللامسؤولية، لأن الإصلاح يأتي من الداخل ويعكس التوازنات الدقيقة للقشرة الحامية للبلد والتي لا بد من الحفاظ عليها لتبقى بعض عناصر الميثاق أساسية ودائمة في ترتيبات التحول. 

أكاديمي مغربي