يودع الشعب الألماني نهاية هذا الأسبوع واحدة من أنجح الشخصيات السياسية في العالم٬ أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية، لتسدل الستار على حياتها السياسية بعد أن أعلنت تخليها عن منصبها ووضع حد لمسيرتها السياسية التي استمرت 16 عاماً في السلطة على رأس 4 ولايات حكومية.
انتخبها الألمان مراراً لأنها كانت تؤدي مهامها بكفاءة وإخلاص، ونالت رضى 80 مليون نسمة، حيث لم تسجل ضدها أية تجاوزات أو مخالفات، لذلك عندما أعلنت قرار الاعتزال كانت ردة فعل الألمان غير مسبوقة، فصفقوا طويلاً للزعيمة التي لم تغرها الموضة ولا الأضواء.
«السيدة الأقوى في العالم» حسب مجلة «فوربس» هو اللقب الذي حملته ميركل 10 سنوات متتالية، فلا توجد امرأة اليوم أقوى منها، ابنة القس ودارسة الفيزياء التي تزوجت في الـ23 من عمرها، كانت هي من تصنع الحدث دائماً في بلادها، وتحمل لقب الأولى في عدة مناصب شغلتها، فهي أول ألمانية تشغل منصب المستشارة، وأول سيدة ترأس الحزب «الديمقراطي المسيحي»، وتقود بلادها خلال عدد من المواقف الصعبة. 
رغم مسيرتها السياسية الحافلة ظلت متواضعة أمام نساء عظيمات، وقالت في مؤتمر عُقد قبل شهرين (هناك نساء فعلن أكثر مني من أجل المساواة). 

وفي مذكراته المعنونة بـ «الأرض الموعودة» كتب الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عن ميركل قائلاً: (كلما زادت معرفتي بها، صارت شخصية أكثر لطفاً تجاهي. وجدتها جديرة بالثقة وصادقة ودقيقة فكرياً وودودة بطبيعتها، صعدت بشكل منهجي ومنظم في الاتحاد المسيحي الديمقراطي بمزيج من المهارة التنظيمية والفطنة الاستراتيجية والصبر الذي لا يتزعزع).
سألتها إحدى الصحافيات في مؤتمر صحفي عن ظهورها الرسمي بملابس تكرر ارتداءها، فأجابتها المستشارة (أنا موظفة حكومية ولست عارضة أزياء). وفي مناسبة أخرى سئلت إن كانت لديها عاملات في المنزل ينظفنه ويجهزن الطعام، فقالت (لا.. لا أحتاجهن. أنا وزوجي نقوم بهذا العمل في المنزل يومياً). 
انخرطت ميركل في العمل السياسي خلال الأيام التي شهدت سقوط حائط برلين وتوحيد ألمانيا عام 1990، ثم ارتقت من متحدثة باسم آخر حكومة في ألمانيا الشرقية عام 1990 إلى زعيمة الحزب المحافظ عام 2000، وصولاً إلى منصب المستشارة الذي تسلمته عام 2005 حيث فازت على منافسها غيرهارد شرودر، لتصبح أول امرأة تقود البلاد منذ قيام ألمانيا الحديثة عام 1871، واجهت ميركل عدداً من القضايا والتحديات على الصعيد الوطني والأوروبي والعالمي، من أبرزها الأزمة الاقتصادية العالمية، التي هزت اقتصاد العالم في عام 2008، وموجات الهجرة الواسعة إلى أوروبا، وملف اللاجئين، فضلاً عن قضايا الإرهاب والعنف والتطرّف، وقد نجحت خلال عملها بدءاً من إنقاذ ألمانيا من الأزمة المالية عبر تدخلات حكومية موضعية، كما أشرفت على التعامل مع الأزمتين الاقتصاديتين الإيرلندية واليونانية، وحقّقت إنجازات داخلية في قطاع الخدمات الصحية، وأسهمت في خفض نسبة البطالة، وفي تنمية مشروعات الطاقة، ونظراً لمكانتها فقد عكفت الصحافية الألمانية «باتريشيا كراوس» على تأليف كتاب يتحدث عن السيرة الذاتية لميركل بعنوان (ميركل.. السلطة.. السياسة)، من خلاله كشفت عن أن أول مستشارة في تاريخ ألمانيا كانت الطالبة الأولى على دفعتها، لكن تبخر حلمها في العمل كمعلمة بعدما اعتبرت الحكومة الشيوعية أسرتها مشتبها بها، لذلك درست الفيزياء، وعملت بعض الوقت نادلة في إحدى الحانات. 
ابنة الـ63 عاماً مستشارة ألمانيا التي كانت صديقة لبلادنا وعلى علاقة وثيقة بقيادتنا نودعها اليوم كما نودع الشخصيات التي دخلت التاريخ الحديث من باب واسع وتركت بصمة لن تُمحى في تاريخ ألمانيا وفي تاريخ العالم أيضاً.