يبدو وكأن بعض دول مجلس التعاون الخليجي في سباق مع الزمن لضمان مكانة مميزة لها في التقسيم الجديد للعمل على المستوى الدولي، وهو توجه صحيح تماماً، فالتغيرات التكنولوجية والذكاء الاصطناعي ألغيا الكثير من الفروقات السابقة بين الدول، وأتاح فرصاً للنمو والتقدم لكافة البلدان، بما فيها الناشئة والنامية، إذا توفرت لها الإرادة والإدارة الحازمة والجادة.
أقرب مثال لهذا التوجه في العلاقات الدولية، هو ما جاء في مبادئ الخمسين والمشاريع المنبثقة عنها، والتي أعلنتها دولة الإمارات مؤخراً، وهي تختلف في طبيعتها وتوجهاتها عما سبقها من مشاريع تنموية، فطبيعتها شاملة، وتوجهاتها نوعية تتعلق باعادة هيكلة الاقتصاد ككل ليتناسب ومتطلبات التنمية في القرن الحادي والعشرين، حيث سنركز هنا على إعادة الهيكلة الاقتصادية والتي تعتبر الركن الأساسي في هذا التوجه المستقبلي الجريء والواعد.
إعادة هيكلة الاقتصاد: لقد حققت دولة الإمارات خلال الخمسين عاماً الماضية تقدماً ملحوظاً في التنوع الاقتصادي وفي تأسيس بنية تحتية متطورة اعتبرت نموذجاً تنموياً للبلدان النامية، إلا أن سرعة التغيرات التكنولوجية والعلمية في العقد الماضي تطلبت من كافة البلدان إعادة التفكير في نمط التنمية السابق، والذي لم يعد ملائماً في ظل التنافس العالمي لاقتصادات المعرفة، فمرحلة الاعتماد على صادرات المواد الأولية، كالنفط والمنتجات الزراعية التي سارت عليها الدول النامية لم تعد مجدية وهي في تراجع مستمر، بل إن الطلب على المواد الخام الأولية نفسه قد تغير، إذ اكتسبت مواد، كالليثيوم والنحاس أهمية متزايدة لحاجة صناعات التكنولوجيا الجديدة لها، وخصوصاً صناعة بطاريات السيارات الكهربائية وإنتاج الطاقة المتجددة، كالطاقة الشمسية.
لذلك، إذا ألقينا نظرة سريعة على مشاريع الخمسين، نجد أنها تتركز على إحداث نقلة نوعية للاقتصاد الإماراتي باتجاه نقله من اقتصاد تشكل صادرات المواد الأولية معظم مكوناته إلى اقتصاد تعتمد مقوماته الأساسية على المعرفة والذكاء الاصطناعي والابتكار، حيث يتضح ذلك من خلال بعض المشاريع التي أُعلن عنها، كتنمية وبناء 500 شركة وطنية مزودة لتقنيات الثورة الصناعية الرابعة خلال السنوات الخمس القادمة وتخصيص 5 مليارات درهم (1.4 مليار دولار) لتبني مشاريع التكنولوجيا المتقدمة في مؤسسات القطاع الخاص وتمكينها من التحول الرقمي.، وذلك بالإضافة إلى الاستثمارات الكبيرة المخصصة للقطاع الحكومي والمؤسسات شبه الحكومية لدعم هذا التحول نحو اقتصاد المعرفة.

ونظراً لدور الاستثمارات الأجنبية المعتمدة بصورة متزايدة على برمجيات التقنيات الحديثة، فقد اتخذت قرارات لتهيئة الظروف لصناديق الاستثمار والقطاعين الحكومي والخاص لخلق فرص اقتصادية لاستقطاب 550 مليار درهم (150 مليار دولار) من الاستثمارات الأجنبية المباشرة خلال السنوات التسع القادمة، وهو مبلغ كبير ستترتب على عملية استقطابه تغيرات مهمة في البنية الاقتصادية للدولة، باتجاه إيجاد بنيية للتنمية الاقتصادية المستدامة.
ولدعم المنتج الوطني وتشجيع التحولات المرتقبة لتعزيز البنية الانتاجية الحديثة، فقد تقرر توجيه 42% من مشتريات الجهات الاتحادية والشركات الوطنية الكبرى نحو المنتج والخدمات الوطنية، كما ترافق ذلك مع توجه نحو تنمية الصادرات بالتركيز على 10 أسواق عالمية كبيرة مع زيادة بنسبة 10% في الصادرات الوطنية لهذه الأسواق سنويا.
اعادة هيكلة القوى العاملة: مثل هذا التحول الهيكلي في بنية الاقتصاد، والذي أشرنا إليه بعجالة لا يمكن أن يتحقق من دون إعادة هيكلة مماثلة للقوى العاملة لتستجيب والمتطلبات المستجدة للتحول الاقتصادي الرقمي والمعرفي، لذلك تقرر إضافة ثلاثة آلاف مبرمج شهرياً للقوى العاملة المحلية مع تقديم تسهيلات وحوافز لاستقطاب مواهب جديدة محلية وخارجية وتسهيل تأسيس الشركات الخاصة بالبرمجة. ولدعم هذا التوجه الخاص باعادة هيكلة سوق العمل تقرر توسعة التوظيف في القطاع الخاص وتم تخصيص 24 مليار درهم (6.5 مليار دولار) لاستيعاب 75 ألف مواطن للعمل بالقطاع الخاص، خلال السنوات الخمس القادمة من خلال برنامج «نافس».
يتزامن ذلك مع احداث تغيرات في المناهج الدراسية ومؤسسات التعليم العالي والتي ستعتمد بصورة متزايدة على التقنيات الحديثة لتنمية المواهب، وهو ما سيسهل من إدماج المزيد من القوى العالمة المحلية في سوق العمل، علماً بأنه تم إجراء تغيرات جذرية في أنظمة الإقامة ومنح إقامات دائمة لاستقطاب المؤهلات العالمية في مجال التكنولوجيا والثورة الصناعية الرابعة، حيث سمتنح اقامات ذاتية طويلة الأجل دون كفيل، مع امتيازات للكفاءات والمواهب المتميزة، بما فيهم أوائل الطلبة وخريجي المعاهد والجامعات.
إذن هناك تكامل بين إعادة هيكلة أهم مكونات الاقتصاد ومتطلباته الحديثة، كالقوى العاملة المؤهلة تقنياً للتعامل مع برامج الذكاء الاصطناعي، مما يعني أن الاقتصاد الإماراتي برمته سيعتمد في إدارته في الفترة القادمة على التكنولوجيا والبرمجيات الحديثة والتسيير الذاتي، إذ سيساهم ذلك في إحداث تغيرات اقتصادية نوعية، بما في ذلك تركيبة سوق العمل، بحيث ستهيمن عليه وظائف اختصاصيي البرمجيات، وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع الانتاجية وزيادة فعاليتها وإلى تطور العديد من القطاعات الاقتصادية الحديثة القائمة على أسس تقنية جديدة، ما سينتج عنه زيادة الإنتاج وتقليل التكاليف، وبالتالي زيادة القدرات التنافسية للمنتجات الوطنية، وسيدعم التوجه الخاص بزيادة الصادرات، مما يعني أن مكونات مبادئ الخمسين متكاملة ومترابطة فيما بينها.
ويشكل ذلك التحول الطريق الصحيح، أولاً للخروج من الهيكلية السابقة المعتمدة على النفط والمواد الأولية، وثانياً لإيجاد مكانة في عالم الاقتصاد الرقمي، والذي من دونه لا يمكن الحديث عن تنمية حقيقية تتيح المنافسة على الصعيد الدولي، وتحافظ على المكتسبات ومستويات المعيشة المرتفعة التي تتمتع بها الدولة.
وعلى افتراض وجود برامج مماثلة في بعض دول مجلس التعاون، فإن تكامل هذه البرامج يمكن أن يمنح هذه الدول مكانة خاصة في الاقتصاد العالمي الجديد، كما أن السوق الخليجية الموحدة والكبيرة نسبياً، يمكن أن تمنح التوجهات الخليجية قوة إضافية من خلال استيعابها منتجات الصناعات الحديثة المزمع إقامتها.
التوجه الإماراتي الخمسيني يشكل بكل تأكيد تحدياً كبيراً لشموليته وجرأته في إحداث التغيير الجذري لهيكليته الاقتصادية، إذ أنه من دون هذا التحدي، وهذه الجرأة لا يمكن تحقيق التنمية والتقدم الاقتصادي في ظل المنافسة العالمية، والتي تملك فيها دولة الإمارات ودول الخليج العربي أفضليات لا بد من استغلالها وتسخيرها للنهوض الاقتصادي، إذ تتوفر لها الاستثمارات والبنى التحتية المتطورة ومصادر الطاقة الرخيصة، سواء التقليدية منها، أم النظيفة والمتجددة، كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وكذلك المؤهلات البشرية والأسواق النشطة والعلاقات التجارية الخارجية المتنوعة المتعتمدة على بناها التحتية المتقدمة من موانئ ومطارات بطاقات استيعابية كبيرة.
ونظراً لحجم هذا التحدي، فإن البعض يتساءل عن مدى إمكانية تحقيق ذلك؟ والإجابة من وجهة نظرنا تكمن في قدرة دولة الإمارات على تخطي التحديات السابقة بنجاح خلال العقود الخمسة الماضية والتي تم خلالها تنفيذ ما اعتمد من برامج رسخت الدولة فيها تجربةً تنموية ثرية أضحت نموذجاً عالمياً، وهو ما يدعو للبشرى والتفاؤل بنجاح التوجه الجديد للسنوات الخمسين القادمة.

د.محمد العسومي
* مستشار وخبير اقتصادي.